نعيم عبد مهلهل
تُكتب الروايات لتنقل إلينا جزءاً من حياتنا عبر هاجس من التواصل بين الذات وما يحيط بها ،انها متعة ذاتية لسرد ينمو كموهبة كما عند الشاعر لكن السرد يعيش تحولات الواقع وما تراه العين ويشعره القلب وليس بالضرورة كما الشعر تذهب به الفنتازيا الى اخلية خارج ما تشعره العين وتراه في واقعنا ،فالراوية تكتب لأرخنة اللحظات والمواقف وسبل العيش وطقوس الانتماء الى الأمكنة ، فيما الشعر يكتب لهيام اللحظات ،غير أن الحداثة وتغيرات العصر وهاجسه ربما فرضت تقاربا حسيا وبنيويا بين الشعر والرواية وتم التنظير على ذلك كثيرا ، وحاول النقد ان يتجه الى رؤية واحدة تقول أن الرواية هي من اقتربت الى الشعر والثانية تقول العكس ،وانا ارى أن الرواية هي من اقتربت لأن الشعر لديه ثبات النشاة الازلية اذ ارى والكثيرين معي إن اللغة بدأت شعرا ومحاولات البشر لللاتصال مع السماء وكسب ودها تمت عبر همهمات اللغة الاولى بعد أن بدأت رسماً واشارات ..
تكتب الرواية اليوم بشيء من أحاسيس الشعر بعد أن شعر الروائيون أن الرواية تحتاج الى تدفق روحي مختلف يعبر عن كوامن شخوصها بحس عال مهما كانت طبائع وتفكير وحياة تلك الشخوص . حس الشعر في الرواية هو من يطور الحدث ويجعله مختلفا وربما تلك السردية التي لاتحتوي على روحانيات الحدس ومادته ودافعه وموهبته تبدو اليوم نصا خاليا من تللك المؤثرات التي تجبرنا على مغادرة مواقع التواصل الاجتماعيل والذهاب الى الرواية التي تعيد لنا لذة الاحساس بالكلمة وهي تعبر عن حدث معاش بصدق ونبؤة ومشاهدة وتعايش ومساندة وتلك المفردات هي طريق الذي سلكته في التعامل مع الرواية الجميلة والمعبئة بحزن الغربة الانسانية وطرقات المنافي الجديدة والتي كتبتها وباحترافية مثيرة الروائية العنود الشمري في روايتها الجديدة " أعرف ‘ني بخير " والصادرة عن مؤسسة الدراويش للترجمة والطباعة والنشر والتوزيع .
وعلي أن اشكر صاحب الدراويش الشاعر والاديب "بدر السويطي" عندما سألته عن الملفت في السرديات التي تطبعها الدراويش فأرسل لي هذه الرواية ،واحسب انني اقرأ لعنود لاول مرة لاتفاجيء برؤى حكاية تختلف عبر هاجسين ( احساس المتكلم العالي في المتن الروائي وحدثها الذي يحمل متعة الألم وهواجس السفر الصعب من عالم في عتمة الى ما يعتقده المهاجر عالم في النور ) هذه الرواية شهادة روحية وانسانية وخواطر سردية تمتع القارئ على حساب لحظات الحزن والألم اثناء كتابتها ..
كتبتها روائية شابة متفوقة علماً وموهبة وهندسة مبتكرة لموهبة السرد والزوايا .لكنها في هذه الرواية لاتتحدث عن احلامها مع العلم وشهداتها العليا انما تكتب هاجس حقيقتها المؤلمة مع حشدا من ابناء جلدتها من كتب عليهم دفع الخطوة في ليل طرقات المجهول الذي يمارس احلام الغيب بمصائرة ويرهن احلامه وحياته وسفره بمزاجات المهربين ونظراتهم المتوحشة وعسل وعودهم المتعبة والشهوانية والمغامرة .
وبعيدا عن سريالية عوالم المهربين تنأى بطلة رواية "أعرف إني بخير " لتنقل لنا شهادة حقيقية ومؤثرة ليوميات بعض من رافقها في رحلتها ، وبنية الرواية قائمة على شعرية القلق والاستلاب ومن لاحول لهم ولا قوة . انها ( العنود الساردة ) تنقل ما تراه وما تشعره ولكل بلغة عالية من الصدق والاحساس والمحاورة .تنظر الى ابطال وقائع هجرتها وتتعامل معهم بهاجس الروح والابوية والقلق وكأنها تحاول أن تؤرخ الى قدرهم من الولادة وغياب الهوية الموثقة بما يسمونه بطاقة الاحوال المدينة فلا حضور لهم في مجتمعاتهم سوى انهم بدون .
بدون وطن ، وبدون هوية ، وبدون احلام ، فكان لهم أن ينظروا الى العالم الجديد كما ينظر اهل اورشليم الى يسوع المخلص ومانح النور عبر طرقات السفر عبر المراكب او حافلات اللحوم المجمدة او قطارات قلق الليل ومطاردة خفر السواحل والحدود. وسيكون أبطال روايتها شهود الشرق الذي لايرحم ابنائه بعدما كان شرقا لحدائق الاخيلة الشهرزادية وامبراطوريات المجد الاموي والعباسي وقبلها هو مجدَ جنائن دلمون وبابل وغابات الارز الذي سعى اليها جلجامش في خلوده . لكن عولمة القرنين الاخرين جعلته شرقا طاردا لابناءه بسبب بعض قوانين انتماء المواطن الى مكان ولادته وذكرياته واحلامه . هذه الرواية "أعرف إني بخير " هي وثيقة من وثائق فنتازيا الألم .شهادة تدونها امراة وبشجاعة وبصيرة وهاجس مختلف . لغة مؤثرة وناعمة الحس والألم وبلاغتها وصفية وماهرة ومشحونة بعاطفة حروفها وهي تعيش قلقاً وحزناً ومجهول طرقات الهجرة وقواربها التي ان تعكر مزاجها ترمي براكبيها مع حقائبهم الى قاع البحر والغرق والموت .
ولا يحتاجون لحظتها كما تؤشر اليها تلك السردية الممتعة بقلم وموهبة الروائية الشابة العنود الشمري لاتحتاج سوى بركات ومعجزة وعطف الالهة اليونانية القديمة عندما تفعلها كما فعلته مع يولسيس وتخلصه من رحلة التعب ومغامراتها وتعيده الى ايثاكا. تبدأ الرواية شكل رسالة من مريم تصل الى عنوان الذي يمسك بزمام مبادرة سرد هذه الحكاية اليولسيسية .. تؤثر احاسيسها في من يستلمها ، فهي تؤشر الى مسيرة مؤلمة وحزينة في طرقات المجهول بحثا عن نسائم الحرية .ومريم هذه تنحت الروائية " العنود " تفاصيل ملامحها وتشعر انها لاتتضامن مع حزن حكايتها فقط بل تكاد تحمل حقيبتها الصغيرة وتمشي معهم خطوة بخطوة .تراقب خوفهم وآلامهم والاعيب المهربين وتفاصيل كل ما يحدث .
ولكنها "الروائية " وبلغة غاية في الحنين وعاطفة التعلق والحرفنة في التعامل مع مشاهد الرحلة كخيال ، والمساندة ترينا وبتفاصيل دقيقة وقائع السفر في يوميات بطلتها وربما تستعيد تلك العبارة الرهيبة للحلاج والقائلة "لولا فرحة الأياب لعذبت اعدائي بالسفر " ولكن تفاصيل هذا السفر الصعب الآن التي اتت بظرف رسالة وتكتب عن حالها وما يسكنها وهواجس ، فمريم تمثل شيئا من عاطفة الحلم المفقودة حيث تضيع تفاصيل الوطن والهوية وحيث يتفاجيء الناس في لحظة انهم من دون مكان وعليهم ان يبددو مخاوف رحلة التيه مرة اخرى ليبحثوا عن وطن في خرائط اوربا .
من الشرق الى الغرب يبدأ ترحال احفاد الحزن الشهرزادي وسدنة امكنة الرمل والبترول والمحار وواحات النخيل وقطعان الأبل وعكاظات الشعر . ومقدمة الرواية تؤثر بدهشة اللغة ومشاعرها العالية الاحساس على من يتصفح اوراقها ويتخيل وجه مريم صغيرا ودائريا ومصبوغاُ بجمالية سمرة فاتحة واسئلة تبحث عن الجواب في مراقبة رفاق رحلتها بين خوف واساليب لصوص ومهربين وهراوات رجال شرطة الحدود وقوارب الموت ونظرات الآلهة الأغريقية ، وكل هذا تجمعه الساردة العلمية بقصة مريم ورحلتها مع تلك اللحظة من الرواية :
(( المغلف الأبيض الذي حمله إلى مكتبي ساعي البريد في ذلك اليوم الاعتيادي جداً، حمل معه كلّ الدهشة والفضول، حين قرأت رسالتها المقتضبة على المغلف، شعرت أن هذا البريد ليس إلا قبساً من سحرٍ، أو ضرباً من جنون، وتساءلت هل يرسل الأموات رسائل ومغلفاتٍ إلى هذا العالم في البريد العادي؟! كأنّها رسالةٌ جاءت إليّ منَ العالم الآخَر، سافرت من الحياة الأخرى إلى الحياة الدنيا، وما إن قضيت ليلتي كاملةً، أتجوّل باهتمامٍ بين أوراقها المبعثرة، حتى أيقنت أن هذه السطور، تحمل لي بين طياتها الكثير من المسؤولية، والالتزام تجاهها، وتجاه مريم، وعيسى، ويوسف، وكل الظلال التي مرّت في تلك اليوميات الموسومة بالموت والحياة على حدٍّ سواء.))
إذن الروائية عنود الشمري ، تمسك خيوط حرير رموش حريرية حائرة وتبدأ معهم السير الى قدرية تضيء بجمالية السرد ومراثي الطريق ولحظات قلق لإناس يريدون أن يمسكوا الأمان بهاجس الامنية ويدفعون لهذا كل ما ادخروه من دولارات لتلك الرحلة الغامضة والتي يبدو فيها ضوء نهاية النفق خافتا ولكنه يصل الى قلوبهم المرتعشة بالأيمان انهم سبجدون الوطن الاخر الذي ينتظرونه بتفاصيل المغامرة " وطن اللجوء "الذي تتصل يوميات الطريق معه واليه بهاجس الرسائل التي تشعر الروائية أن مهمتها النبيلة ابتدات حين توظف طاقتها وموهبتها ومهارتها لغة وسردا وتعيد خواطر الامل والألم والخوف وامكنة رحلة التيه هذه ، تعيد نسجها بحكاية بعد معاناة عسيرة في لملمة الافكار والتعابير والمشاعر الوجدانية التي حملتها رسائل مريم لتنتهي اخيرا برواية جميلة اللغة والعاطفة والمشاهد واسرار الهجرات الغير شرعية من اجل احلام شرعية اهم مافيها هو الحياة الكريمة ، لهذا تتجمع تلك الخواطر واليوميات لتصنع منها " العنود " نصا روائيا مثيرا ومحبوكا بعاطفة غريبة من تفاصيل الحلم الانساني الذي غيبته القوانين الصارمة والرفض وعدم الاعتراف. الرواية في 19 عشر جزء ..
ومتى تتعقب الحدث ومشاعر اصحابه حتى تكتشف انك تتعلق بكل تفاصيل الرحلة وشخوصها حتى وجوه المهربين وستكشف معها إن صاحبة المدونة الانسانية هذه " العنود الشمري " كانت امينة جدا في الاحتفاظ بمشاعر مريم وابطال روايتها كمثل الذي يحتفظ بشيء ثمين مؤتمن عليه وكانت مهمتها أن توصل يوميات مريم ورسائلها بكل تفاصيلها الى متن هذه الرواية التي تصلح لتكون واحدة من وثائق الامم المتحدة وفصلا في مسودة اعلان حقوق الانسان ، وبمكن ان تحول الى سيناريو وتقدم كفيلم سينمائي ، ذلكَ لأن الرواية تتحدث عن مصير بشر غرق الكثير منهم في قاع البحار او قتلوا من قبل وحوش الغابات وجشع المهربين والرصاصات المطاطية لخفر السواحل والحدود.
الرواية " أعرف إني بخير " كتبت لتوثق مجهولية المصائر في حياة بعض من بشر هامش الحياة ، ولكن واحد من أبناء هذا الوطن الهامش دون السيرة الذاتية لهذا المصير وكتب عن تفاصيل رحلة الموت او الحياة ، بتدوين مشاعر تفيض بدهشة التعابير المخلوطة بميثولوجيا الحزن القاتم والغريب والمرعب في بعض محطاته وطقوسه ،ذلك لان كل محطات طريق الهجرة وبمعية مهربين خطرة وغير مكفولة ولايمتلكون ذرة من الانسانية والرحمة وفي لجة بحر هائج وقارب متهالك تستطيع مريم أن تملي على الروائية تفاصيل قلق معبر بجمالية المشاعر المختلفة واغلبها تكاد تقترب من الموت بين اناس لم يعرفوا يوما ما ان يقودوا قاربا في حياتهم وعليهم الآن في ظلمة الطريق أن يمارسوا ذات الفعل الذي مارسه بطل رواية ارنيست همنغواي " الشيخ والبحر " :
(( لن أنجو من الغرق، ومن موجة الهذيان التي اجتاحتني، كلما ظننت أني شفيت، زادت حدّة جنوني وهذياني، لابد أنني جننت، كيف يمكن لعاقلٍ أن يتحمّل كلّ هذا الجنون، التفكير بالحليب جعلني أشتمّ رائحته، أقسم أنني أشتمّ رائحة حليبٍ، وأسمع صوت طفلٍ رضيعٍ يبكي .. يا مجنونة، أيّ طفلٍ رضيعٍ يبكي، وأنت في هذا الليل في وسط البحر وحدك، لا شيء معك إلا هذيانك والوهم ؟ يزداد في مسامعي صوت البكاء، إنه طفلٌ صغيرٌ قريبٌ كأنفاسي، وبعيدٌ كذكريات الطفولة، كأنني عرفته منذ الأزل، كأنني سمعت صوته قبل هذا الجنون، حادٌ صوته وحنونٌ كحلمٍ رسمته في خيالي منذ الصغر، وعتّقته بالأمل .))
هنا ستجد ان الساردة امتزجت مع بطلتها الى اقصى حد من تخيل المشهد عندما ننسى خوفنا من المكان وظلمته وقدريته التي لانعرف مسارتها ونهايتها ونعيش لحظة الحنين الى شيء نصنع هاجس الحب من خلال هذيانات ذكرياتنا وايامنا القديمة ، ثم توقظها الساردة " توقظ مريم " لتنبهها الى هذا الوضع المخيف وأن مهتمها حتى مع هذا الخوف ان تؤرخ التواريخ الهامشية والمختبئة عن عيون العالم للبشر الذين يبحثون عن الحلم في امكنة لايعرفون عنها سوى انهم سيعملون فيها ويأكلون ويشربون بها ويعتنون بهم جيدا ضمن مواثيق حقوق الانسان واحترام حياة البشر .
تستيقظ مريم وتغادر اطياف طفولتها ورائحة الحليب في امكنة تتلاطم على سواحل خلجانها زوراق طفولتها وهي تحمل الدمى لتبدأ لحظات الحديث عن مرافقي رحلتها اولئك الذين لاتعرفهم سوى ما جمعهم هو قدرية الطريق والبحث المشترك عن ملاذ آمن بعد الهروب من اوطان الخوف والمهانة والقوانين الجائرة . واكثر المواقف المؤثرة والمصبوغة بهلع الوجوه عندما تأتي ما يتوقع المهاجر ،الموجة العالية او انقلاب الزورق او ظرف مناخي آخر يجبرك على فقدان بعض الذين تآلفت معهم بغربة الطريق وشعرت بمودة اليهم وهم يشعرون بذلك ،لكنك في لحظة ما وبسبب غدر تلك القدرية وبعض المهيمنين عليها تفقد هذا الذي شعرت معه بذلك الود والحب والعاطفة الانسانية ، فتضيع اخباره ولا تسمع عنه شيئا بعد ذلك:
(( أجبرتنا غريزةُ البقاء في تلك اللحظة، أن نتعرّى من ضمائرنا وإنسانيتنا، وأن نتّخذ بعض القرارات القاسية. لقد شعرت حقاً أن جزءاً مني قد مات، وأنا أسير إلى الأمام، وأمّ الزين من ورائي، أسمع حثيث خطاها، ورنين صوتها الشجيّ، وهي تسأل المارة عن ولدٍ صغيرٍ، تاه منها في البحر الغدّار، وكلّما تقدمنا إلى الأمام، كان صوت أمّ الزين يخبو تدريجياً، حتى انقطع تماماً عن مسامعي، وانقطعت كذلك أخبارها، وانتهى عهدنا بها في ذلك الشاطئ، وما عرفنا بعد ذلك أيّ خبرٍ عنها.))
الرواية تتحدث بتقنية سردية ولغة مؤثرة واحترافية وبليغة عن مراحل تلك السفرة الغامضة في قدر تلك الهجرة التي تأخذ من البحر الهائج طريقا .. ومتى رحم بهم هذا البحر كما في الرواية وتوصلهم الى ساحل الأمان فيي أول محطاته التي لايعرفون كم عددها وماذا سينتظرهم في كل محطة ، ستبدأ مريم في الحديث عن تفاصيل يوميات اخرى تشتغل عليها الروائية "عنقود الشمري " بهاجسين هما تدوين مشاعر مريم والحديث عن أولئك الذين رافقوها ، حيث تبدأ الاجراءات الروتينية لكل مركب يصل سالما الى الضفاف وكأنها تعيد هنا ما كان عند وسائد البحر ومريم تنظر الى البحر خلفها لتؤجل ذكريات ساعات المحنة والرعب معها الى حال تستقر فيه وكانها تعيد كلمات استورياس التي تقول : ليت للماء ذاكرة ولسان تقول وداعا الى كل الذين وصلوا الضفاف .
هذا الملخص الروحي لهاجس مريم والرواية "الشمري " تتعقب خطواتها واحساسها ومعها اؤلئك الذين نجوا حيث تشعر مريم ان من بعض هاجس التدوين ليومياتها أن تكتب عن اؤلئك المغيبين في تفاصيل احلام وردية ولكنها في لحظة ما قد تحول الى ازهار ذابلة وعتمة قاتلة " الموت ".
من هنا يكون الوصول الى الساحل وتبدأ مشاهد درامية اخرى ،والروائية صادقة في النقل تحت مشاعر الهاجس الذي يقول " لم نرى نوافذ بيوت الجنة بعد " لكن المهم انهم غادروا ولو بشكل مؤقت ملالامح الخوف والموت وصار بمقدور ابي سلام وعيسى وأم سلام ومريم أن يشعروا بأن الوضع تغير الآن وعليهم الاستعداد لاجراءات اللجوء الاولى بالرغم من رداءة المكان الذي حُشروا فيه "الكمب " المؤقت :
(( نُقلنا إلى مكانٍ آخر، وهناك قُسّمنا إلى مجموعتين: الأولى للعائلات التي لديها أطفالٌ تحت سنّ العاشرة، والثانية لما تبقّى منّا. في ذلك المبنى العتيق، الذي تحكي أسواره وجدرانه المتهالكة قصصاً وحكايا عن أشباحٍ مرّت من هنا، وتركت ظلالها، وبعض شقائها. الكآبة باديةٌ على واجهة المبنى، والحزن يفيض من غرفه الصغيرة، الأبواب تبكي كلما مسّها بشرٌ، والنوافذ منغلقةٌ على نفسها، لا تقوى على الحراك، مثل عجوزٍ مسنّةٍ تنتظر الموت. هذا المبنى العتيق! يقول أبو سلام: "إن هذا المبنى كان مدرسةً في القرون الوسطى، ثم تحوّل إلى معسكرٍ، إبان الحرب ثم إلى معتقَلٍ، والآن هو ملجؤنا الوحيد حتى إشعارٍ آخر". لم يستقبلنا بالأحضان هذا الملجأ، ولكن ذلك لم يردعنا عن الالتصاق بأحضانه الباردة، مثل ابنٍ عاقٍ يطلب الغفران، وتمددنا على الأرضيات في الغرف التي خُصصت لنا، وسرعان ما تحولت تلك الأجساد المنهكة إلى جثثٍ راكدة. في الصباح، عمّتِ الفوضى، وتفشى القلق بين الناس، حين اكتشفوا أن دورات المياه والمراحيض لا أبواب لها ولا ساتر، ثم ما لبثت أن ولّدتِ الحاجة اختراعاتٍ جديدةً، وبدائل للأبواب، فاستعملنا الأغطية، والبطانيات، وصنعنا أبواباً من قماشٍ، وتأقلمنا مع الوضع الجديد.))
هذا الوضع تتعقبه الروائية مع رسائل مريم بتفاصيل تعكس عليها لغة الرواية الكثير من مشاعر الغربة الاولى بتفاصيل دقيقة اشتغلتها العنود بهاجس من قوة الموهبة والمعايشة التي رات تفاصيلها في تجربتها الذاتية وربما مريم هي ذاتها العنود وربما كل اللائي عشن ميثولوجيا اللجوء عبورا من تركيا الى اليونان عشن ذات التفاصيل ولكن بأقدار واحدة واحاسيس مختلفة.
أحاسيس ايقاعها متغيرات تلك القدرية التي ستشهد متغيرات كثيرة تكون فيها الروائية امينة جدا وهي تنقل لنا ميثولوجيا عولمية لسفر حشد من البشر يهربون من الهامش الى ضفاف حياة الحرية والعيش الهادئ وحقوق إنسانيتهم .. *فصل أول من كتاب يقرأ جمالية ورؤى الهروب عبر سفر القوارب الى أمكنة النجاة من خلال رواية " أعرف إني بخير " للروائية عنود الشمري