نعيم عبد مهلهل
ــ مقطع عرضي من كفاح عائلة ــ
في رؤية أولى كانت قراءتنا عن البدايات السردية التي سكنت روح الرواية العودة الى هليليكي وابطالها وكنا نتابع بنية السرد وجمالية احساس الروائية وهي ترتدي ثوب بطلتها او ربما بطلة الرواية ترتدي ثوب روائيتها ، وقد يكون هناك تبادل ادوار في بنية الرواية قائمة على تفاصيل يوميات عائلة كردية تبحث عن وجودها في تاريخ طويل من التهميش والاستلاب ولايملك القارئ شيئا في متعة القراءة سوى أن يتعقب المشاهد السينمائية التي اتقنت الهام عبد القادر عبد الرحمن في كتابة سيناريو مشهد الضياع الوجودي لعائلة تنظر الى الحياة من خلال ابنتها المتفوقة والاخ ( سردار ) الذي حمل حقائب الهجرة الى بيروت ، ولتحمل اخته ئالا دفاترها وتصبح طالبة حقوق في جامعة دمشق ومع هذا الحلم والتحدي وهم يحذرونها من دمشق ومجتمعها الذي قد يتغلب على برائتها وحماستها وقد لا تصل معه الى طموح ان تكون محامية .
كما في احساس اخيها ورغبته : (( أمي، أخشى على أختي. الشام مكان محفوف بالمخاطر وفوضى لا تنتهي. لا أستطيع السماح لها بالدراسة هناك، فهي غير آمنة.
إذا صممت على الدراسة، فلتذهب إلى أي معهد في الحسكة، فهو أقرب وأقل خطورة.)) الرواية صفحة 42.. ومتى ذهبت الى روح الأسى والتيه التي نقلتها لنا الروائية ستعرف أن بطلة الرواية هي بطلة لأثبات الوجود لقومية تريد ان تصل الشام لتثبت لنا إن المزيد من الاحلام يمكنها أن تحدث تغيرا في مشاعر تلك الاقلية التي تنقل لنا الرواية الجانب الخلفي من حياتها جانب اثبات الذات والهوية وهي تنقل لما جزء من تفاصيل بانوراما كتبت بلغة الاسى والشعر للعائلة التي ضاعت منها اوراق الثبوت وخضعت لرحمة ووعود المحامين .
عائلة يسكنها اليتم والفقر والبحث عن نافذة الضوء بين كوكة اوراق ومراجعات يومية تلاقيك فيها وجوه عبوسة ولا ابالية ومرتشية لموظفي دوائر قد يوعدوك ولا ينفذون وعودهم. ترصد الهام عبد القادر عبد الرحمن واحدة من رحلات التيه التي عانى منها انسان قوميتها في تأريخ قست عليه الجغرافيا والانظمة ، ويبدو انها تنقل جزء من سيرة ذاتية لروحها عبر هاجس الشجاعة والاصرار لتكون فكان حي هليليكي انموذج للمدينة الكردية الحلم التي سكنت صباحات قامشلو ، ولتضع لنا الروائية في احلام وحزن ومشاعر الضياع شخصية ئالا التي ربما هي شخصيتها كانموذج وجودي لصناعة الحياة وجعلتها ايضا شاهدة عيان لعائلة من بين مئات الالاف من العوائل تعيش ذات القدرية فكان احساسها أن تكون كلية الحقوق في جامعة دمشق نقطة التحدي بعد أن اثبتت لأهلها وجيرانها وابناء قوميتها أن النجاح ليس حكرا على من يزرعون الياسمين في حدائقهم ، وكانت ئالا هي زراعة أمل يأتي من خلف الشمس وضعتها الروائية انموذج لأول تحد لها في هذا العالم الابداعي الصعب "عالم كتابة الرواية ".
فهي في لحظة البدء تفاجئني بقدرة على تحريك ابطال روايتها عبن نافذة العين التي تشاهد ومن بين تلك المشاهدات انتبه الى فصل مؤثر من حياة عائلة مات معيلها وكان على الام ان تحمل هاجس السرد الذي تركه لنا الروائي مكسيم غوركي في روايته الشهيرة ( الأم ) في صنع الأمل والأصار ولكن مع رحلة البحث عن ثبوتات الهوية تجسد الرواية المشاعر بلغة ممتعة وروحية وحزينة لتشد القارئ اليها وهي لاتدرك ربما انها تستخدم الكاميرا السينمائية في رصد خطوات امها المتنقلة بين مكاتب الدوائر والمحامين لتثبت انها وابنائها جزءا روحيا وتاريخيا واسطوريا من هذه الارض .
من قامشلو والهيلليكي وسوريا. (( حينما اكتشفت أن الحكومة رفضت تسجيل اسمها لأنه غيري عربي، شعرت بأن أحدهم قد انتزع منها حبيبا عزيزًا. لم يكن هذا الرفض مجرد إجراء إداري، بل طعنة في قلبها، وأسقطها في حفرة لا قرار لها. أصبح « ئالا رنكين» رمزًا لهوية مفقودة وخيبة أمل متجددة، وشبح يطاردها بمرارة. كلما نظرت إلى أوراقها الرسمية التي تفتقر إليه تشعر بنقص جزء ٍ من روحها، وازداد حنينها وتعلقها به، لتصبح علاقتها به عشقًا ممتدًا يعيد إليها حلمًا بعيدًا وصورة الأب الذي لم يمكث في حياتها طويلاً.)) الرواية ص / 32 تفكك هذا المقطع فتشعر كقارئ أو ناقد أن الرواية في هذه الفاصلة هي مرثية لحياة شريحة مجتمعية عاشت تراكمت من عصور ثبات الذات لتجئ ئالا لتمثل شيئا من صرخة الرفض وثورة من اجل حياة افضل وربما نجاحها الباهر هو بداية خطوة الاستيقاظ لدى بيوت هليليكي وقامشلو كلها .
وحي جمالية التتبع التي تؤرخها ئالا لدوران أمها اليومي مع كومة أوراق رسمية وشبه رسمية ومخاطبات دوائر من اجل ثبوت الأنتماء الى تلك البقعة من الآرض والتي اسمها الوطن ، وهو جزء من حالة الروح والمهادنة والثورية الصامتة الكامنة في صمت الانسان وصبره لتكون اللحظة الوجودية لهذه العائلة هي لحظة البحث عن حياة شجاعة هرب منها سردار مهاجرا وابقى للأم مهمة الذهاب بسفينة هذا البيت الى ضفاف الأمان لتجئ ئالا لتساهم بدفع هذه السفينة بقوة اكبر .
أعتنت الروائية بلغتها والكتابة عن الحس الانساني بلغة روائية مؤثرة شاهدنا فيها صياغات حسية وانسانية عميقة عمقتها اللغة العاطفية التي تقرب القارئ اليها وتجعله متعاطفا مع كل الذين يعيشون داخل روايتها بدءا من لحظة الزهو والانتصار الذي سكن قلب ئالا الى تلك الدراما الكونية في نهارات التعب والبحث عن ورقة المصير التي تبحث فيها الام عن مستقبل لأبناء تركهم الأب لديها امنة وذهب مع دمعته الى قدره البعيد .
صورة الوجود في رواية العودة الى هليليكي هي جزء من تلك الملحمة الإنسانية التي رسمتها لنا الروائية الهام عبد القادر عبد الرحمن وهي تؤشر لنا عن ولادة موهبة سردية تجد في الرواية اسهاما مجتمعيا ووطنيا في عرض قضيتها كهاجس تاريخي وانساني مغروس بجذور الثبات في هذا المكان هليليكي منذ الاف السنين وليس للرواية سوى ان تكون ارشفة وشاهدة عيان لبعض تواريخ انسان هذا المكان ، وان الوجود المسكون بعاطفة المصير التي ارتبطت بهاجس الثورة والاصرار على اثبات الوجود ليس عبر مناصات الخطاب وفوهات البنادق والتظاهرات في مدن المنفى والشتات بل ومن خلال الأدب .
حيث تستطيع أن تكتشف ان الهام عبد القادر تضع هنا وجودية المكان ضمن اسفار البحث والحلم وتطوير عاطفة البشر واصرارهم عبر مسيرة أم تقود حافل حياة كل افرادها الذين تركهم الأب وهاجر الى السماء . ولم ببق منه سوى ذكريات بعيدة تجسدها الروائية بخيالها السينمائي ولغتها الشاعرية : (( كلما نطق أحد باسمها المغيب، فإن تلك الكلمة تشعل شرارة من الاتصال العميق بوالدها الغامض، الذي لم تعرفه إلا من خلال قصص مشوشة وذكريات قديمة كان اسمها بمثابة قناة تربطها بعالم أبيها، الذي ظل بالنسبة اليها كائن أسطوري يطل من بعيد، مثل ظل يتلاشى في الأفق .)
هذه الرؤية الوجودية مثلتها الروائية إلهام عبد القادر عبد الرحمن كمقطع عرضي تحدثت فيها بطلة الرواية ئالا عن كفاح امها وكفاح اخيها وكفاح اناس هليليكي كلهم .وكأنها في هذا المقطع تمهد لمسيرة التحدي وقد قررت الذهاب الى دمشق لنيل شهادة الحقوق والحقوق هنا هو حقها في حياة تستطيع فيها أن تعوض عن سنوات الاسى والغياب ونظرات موظفي الدوائر الباهتة والتي لم تحترم سعي أمها لتثبت انها ينتمون الى وطن وحلم وحياة.
فرانكفورت في 16 حزيران 2025