05A2EDD17376135DD5B5E7216D8C98DB
01 Jun
01Jun


كانت النافذة الوحيدة في الغرفة تطلّ على شارع لا يمرّ به أحد.


هُدى ، العجوز ذات الثمانين عامًا، كانت تجلس كل يوم على كرسيها المهتزّ، تنظر من خلالها كأنها تنتظر شيئًا، أو ربما أحدًا، منذ ثلاثين سنة.


ثلاثون عامًا منذ أن ذهب ابنها الوحيد إلى الحرب، ولم يعد. قيل لها إنه مفقود، ولكنها لم تصدّق. كانت تؤمن أن من يخرج من البيت مودّعًا بضحكة، لا يعود جثة.


كل صباح، كانت تجهّز فنجانين من القهوة. تضع أحدهما أمام الكرسي الفارغ المقابل، وتقول بصوت خافت:“صباح الخير، يا حبيبي. القهوة مثلما تحبها، سادة، مرة، مثل الغياب.”


الجيران ظنّوا أن عقلها قد بدأ بالذبول. كانوا يمرّون تحت نافذتها وهم يتهامسون:“المسكينة… لم تعد تفرّق بين الماضي والحاضر.”


لكنها كانت تفرّق. جيدًا. كانت تعرف أن العالم نسي ابنها، لكنها لم تنسه. لم تسمح له أن يموت في ذاكرتها. كل تفاصيله حيّة، حتى نبرة صوته حين قال آخر مرة:“لا تبكي يا أمي، سأعود.”


كانت تصنع من غيابه حضورًا، ومن حضوره صلاة.
ذات مساء، جاء ساعي البريد يحمل ظرفًا بلا طوابع، فقط اسمها مكتوب بخط مرتجف. فتحت الرسالة، وكانت بضع كلمات فقط:


“أمي… تأخرت كثيرًا. لكنني أتيت. أنا واقف خلف النافذة.”


تجمّدت للحظة. قلبها بدأ يخفق كما لم يخفق منذ زمن. التفتت للنافذة ببطء، فوجدت ظلًا طويلًا لرجل واقف في الخارج.


لكنّها لم تصرخ. لم تبكِ.


ابتسمت فقط، كمن عاد له كل شيء في لحظة.
وفي اليوم التالي، لم تفتح النافذة.


دخل الجيران ليجدوها جالسة على كرسيها، هادئة، مبتسمة، وعيناها مغمضتان كمن غادر أخيرًا إلى حيث الأمهات لا ينتظرن أبناءً غائبين


مصطفى علاء ابراهيم 

جامعة السراج

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2025 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن