05A2EDD17376135DD5B5E7216D8C98DB
05 May
05May

فارس شمخي


من دواعي سروري أن تهديني هذه المجموعة الشعرية يا صديقي، في المقهى الرياضي، حين ناولتني الديوان بعد أن كتبت لي الإهداء والتوقيع، شعرت بشيء أكبر من الامتنان.

 الوصف الذي كتبته لي كنت أرى نفسي دونه بكثير، ومع ذلك حين قرأت قصائدك وجدتني فيها كأنني من كتبها كأنها كانت في صدري وخرجت على لسانك، وهذا ما يفعله الشعر الحقيقي. 

ديوانك هذا لا يبدأ بنص شعري، بل بإعلان صريح لموقعه الرمزي..

 هو ديوان للذين يضحكون بهموم لم يظهروها، للذين يجرون البسمة إلى أفواههم عنوة، للذين يتقنون تمثيل الحزن بإخلاص مذهل. 

أولئك الذين يصاحبون الشاي والسجائر لا لطلب الدفء، بل لطلب المعنى وسط هذا العبث الكبير. سأكتب عن ثلاثة قصائد؛  لأن فيهم وجدت ما كنت.

 بالرغم أنني مبتعد عن كتابة هكذا قراءات؛ لغاية في نفسي، لكنني وجدتني هذه المرة مجبرا، وذلك لأنني وجدت نفسي هنا، كما قلت سابقا وسأقول لاحقا، والأهم:  لأنك يا أحمد تستحق هذا، وأرجو أن تنال هذه القراءة اعجابك، وأن تلامسك كما لامسني شعرك. 

١. محضر سري في البداية، لا شيء.. لا سطر افتتاحي ولا نداء كما يليق بالبداية، ولا إشراقة خفيفة تفتح لنا الباب. بل همس لا يسمع إلا في الزمان الذي لم نعد نرغب في العودة إليه..

 "ستروي لنا الأيام بعض أسى لقصة لا تحتاج للحبر"

 وهكذا تتوارى القصيدة خلف هذا الهمس وكأنها تخشى التورط فتوكل المهمة إلى الزمن ذاته. 

ويبدأ السرد ببطء وكأن الكلمات تتسلل إلى الوراء أكثر مما تخرج إلى الأمام. كل شيء يبدو مؤجلا حتى الأسى.

 تختبئ القصيدة كما لو كانت مخبأة خلف كأس من الخمر، مع الندمان وذلك السهر الطويل الذي لا علاقة له بالأنس أو النسيان، بل هو فقط هروب، هروب من الحاضر من تلك اللحظة التي لا تقوى على مواجهة الزمن. الشاعر هنا ليس نبيا يروي قصة بل هو راوي جريح..

  الذي يظل يروي ما تركه الجميع دون حديث. 

ترى، هل كان يجلس في جلسة خمرية؟  هل كنت هكذا يا أحمد؟ ربما. 

لكننا لا نرى إلا الكأس التي كانت ترفع لتقول شيئا، ثم تسكت. كل شيء كان مباح لقول لا يقال، وكأن في تلك اللحظة غير مستعد لأن يقول ما يستحق أن يقال. 

المرارة ليست خمرا بل هي مرارة مؤجلة من حياة لم يكن لأحد فيها يد. 

حياة كانت تنقض على الأيام، كما يتنقل الندمان بين الزجاجات. الحياة نفسها تظل غير مكتملة، وكأنها سكبت في كأس كبيرة لا تحتوي على شيء سوى الوجع المتراكم. ثم، في هذه اللحظة من السهر، تبدأ الأسئلة. 

لا من الشاعر، بل من الندماء الذين يحاصرون الصمت. 

"من أنت؟" ويجيبهم ببساطة: "لا أدري" إجابة لا توضح شيئا بل تشرح كل شيء.. أن لا شيء يمكن أن يقال عن هذا الذي لا يتورط في يقين، ولا ينجو في شك.

 يظل يبحث، دون أن يعثر على إجابة مرضية، وكأن العالم قد ابتلع نفسه مع الجواب. ثم تبدأ القصيدة تأخذنا عبر الزمن. لا يوجد ترتيب دقيق لا استمرارية زمنية يمكن أن نحددها.

 فكل شيء يتداخل؛ نتقدم ثم نعود، نتوقف ثم نرتبك. وكأن القصيدة تشبه ذاكرة شخص قد أصابه الخرف، لكنه لا يزال يتذكر أسماء لا يعرفها أحد.

 في مكان آخر يظهر البواب، البواب ذاك الذي وقف طيلة حياته على العتبة، لا يدخل ولا يخرج.

 فقط كان يرى. يرى... 

كان يعرف أن الداخلين خرجوا مكسورين، وما عادوا كما دخلوا. هكذا يروي البواب قصته مع الزمن؛ فهو لم يكن قادرا على التأثير في ما يحدث، لكنه كان يقف ويشاهد ويعرف أن العالم يتغير… 

وأنه لن يتغير. 

ثم نعود إلى يوسف، لكن ليس كما علمونا. 

يوسف هذا ليس نبيا، هل هذا أنت؟ أنا؟!  ربما لكن المؤكد أنه ليس ذلك الذي غفر لإخوته، بل هو يوسف آخر. 

يوسف الذي جلس على حجر، يتأمل بعيدا عن الجميع، وقال لهم: "ادخلوا… واحذروا" لا لأنهم أعداؤه، لكن لأن الداخل نفسه صار غريبا.. وهكذا سيبدأ يوسف بالانتقام لكن لا عبر إخوة الذين قد خانوه، بل من الوطن. 

الوطن الذي لم يفتح ذراعيه، بل أغلق الباب وتركه خارجا.. الوطن؟! نعم، هو وطن، لكنه أغلق الباب وترك يوسف في الخارج.. عكس البئر، وهذا هو الفارق، ذلك كانت البئر أفضل. 

هل تعي ما أقصد، أيها القارئ؟ في منتصف القصيدة، يغرق الخل  وتسقط الكأس، ويخفت الصوت.

 كل شيء هنا يقال لينسى لكنه لا ينسى. كأننا أمام شاعر فقد القدرة على الحلم، لا لأنه تعب، بل لأن الحلم جربه…

 ولم ينجو منه. وفي النهاية، حين تطرح عليه الأسئلة، "من أنت" لا يقدم إجابة، ولا يحاول أن يعرف نفسه، بل يقدم انكسارا خالصا،لا طائل منه ولا ملاذ ويتركنا، نحن القراء، أمام هذا الصوت الذي يشبه وجوهنا حين لا نكون أمام أحد.

 "محضر سري" ليست قصيدة، بل دفتر نسي في جيب يوسف بعد أن خرج من البئر، ولم يفتحه أحد إلا أحمد، ومن قرأ. ولا ينبغي للقارئ أن يبحث في هذه القصيدة عن يوسف الذي غفر.

 هذا يوسف آخر: يشبهك، يشبهني، يشبه من ظلوا طيلة حياتهم يبتلعون الظلم حتى اختنقوا. يوسف هذا لم يبتلع الغصة ثم يمضي، بل جلس عند فم الجب، يكتب على الحجارة أسماء من رموه، ويضع كفه على صدره، لا ليطمئن، بل ليتأكد أن الشوكة ما زالت هناك. هذا يوسف لم يصعد إلى العرش، بل إلى الحقيقة الموجعة، أن لا أحد يعود كما كان، وأن من يسقط، حتى لو نجا… لن يغفر.  هذا أنا وأنت وهو وهي، هذا نحن وهم...

 ٢. رسالة غير مجدية لسيد منسي: 

 هذه القصيدة لا تكتب بل تكتشف، لا تلقى في دفتر بل تسحب من صدر بقي طويلا لا يعرف كيف يصرخ.. هي ليست مرسلة ولا متأخرة ولا حتى غير مجدية كما يدعي الشاعر، بل جاءت في اللحظة التي لا ينتظر فيها شيء فكانت كل شيء.. 

المنسي هنا ليس مجهولا، بل معروف معرفة موجعة، هو أنا وأنت وهو وهي، هو الذي جلس معنا على ذات الطاولة ثم غاب، هو الذي مر قربنا فلم نره هو الذي كان على وشك أن يتكلم ثم تراجع ليس لأنه لا يملك الكلام بل لأنه يعرف أن لا أحد ينصت حقا. هو أنا، نعم أنا.

 ماذا فعلت بي يا أحمد؟ "قلقٌ وهمك في الليالي طاحن وسوادُ ليلك مدلهمٌّ كامن" هذا ليس بيتا شعريا هذا صوت نسمعه حين نغلق الباب خلف الجميع. القلق لا يقال القلق يسكن الجسد حتى يخرجه عن صمته.

 والسواد هنا ليس مجازيا، إنه الظلمة التي تطفأ فيها الذاكرة، فيعود كل شيء.. جوه الذين غادروا، لحظة الانكسار، ذلك السؤال الذي لم يجب عليه أحد. "آسٌ وأوتارُ الكآبةِ لم تزل تنبيك عن حزنٍ، وإنك لاحن" الحزن ليس انفعالا هنا، بل هو توقيع شخصي؛ أنت لا تحزن،  أنت الحزن ذاته، تعزفه دون وتر، تسمعه للهواء ثم تنفي أنه لك. ومع ذلك، حين تسأل: لماذا حزنت؟ تبتسم فقط، لا لأنك بخير، بل لأن الشرح عبث.

 "حزنٌ تميز فيك وحدك إذ بدا سحرًا، وأنت بذاك حزنك فاتن" يؤلمك أن تكون جميلا في حزنك أن يقال عنك إنك تبدو شاعرا وأنت تحترق.. يؤلمك أن تصير تمثالا للحزن في متحف الأصدقاء.

 ثم تعود إلى وحدتك وتفكر: إنهم يحبونني لأنني موجوع، فهل أشفى كي أرتاح، أم أبقى كي لا أنساهم؟ "قلقٌ وصمتك تستقرُّ به الثرى ولئن صرختَ تضجّ فيه مآذن" الشاعر هنا يقول لك الحقيقة التي تعرفها: أن الصمت صار وطنك، وأنك لو تكلمت حقا ستهتز المدن ستحزن الشوارع، وستبكي الجدران؛ لا أحد يحتمل صوت المنسي إذا قرر أخيرا أن يتكلم.

 "غر تبعثر من صباك طفولةٌ وصباك في غر الطفولة طاعن" أين صباك؟ تفتش عنه فلا تجده في الصور ولا في الضحكات ولا في الروائح التي كانت يوما تشبه الحياة. 

هو صباك الذي مر بك وأنت تمر بالحرب، الذي لم يكمل لك لعبتك، ولا أعاد لك دفترك، هو الذي تركك قبل أن يكتمل. كل طفولة ناقصة تصنع منك منسيا. "مذ أن رضعت من المآسي ثديها للآن تنفث من لظاك مداخن" أنت لم تكن طفلا، كنت مشروع خيبةٍ متوارثة. 

لا شيء أرضعك الحنان بل المأساة، فكبرت، لا لتزهر، بل لتخمد ما فيك من احتراق فكيف بك أن تصير إلا مدخنة تغلي في الداخل وتنفث السواد كي لا تختنق "وتعبت من طرقٍ وقد أتعبتها حتى أضعت وما احتوتك أماكن" أنت لم تضل الطريق، بل الطريق هو من أضاعك لم يكن المكان واسعا ليضمك، كنت أكبر من كل حارة وساحة ومأوى كنت تبحث عن باب يشبهك لكن لا أبواب للمنسيين نحن نترك على العتبات نكتب رسائل لا يفتحها أحد. 

"تدري مخادعة الطريق وليلِه وبرغم ما تدري دهتك كمائن" أنت تعرف، تعرف الغدر والمكر والانكسار، ومع ذلك تسقط لا لأنك ساذج، بل لأنك تريد أن تصدق أن في هذا الليل شيئا يشبه الصباح، فتلدغ مرة أخرى،  ثم تعود لتقول: كنت أعلم لكن العلم لا ينقذ، وحده النسيان يفعل وأنت لا تنسى.. 

"ونثرت عمراً في حقول وصالهم كالقمح لكن العقول مدافن" أهديتهم وقتك، قلبك، شبابك زرعت الكلام في صدورهم لعلهم يثمرون فهما، لكنهم كانوا قبورا مفتوحة، دفنت فيهم أجمل ما كان فيك، وخرجت بأقل مما دخلت. 

"وسقيتهم عمراً وجفنك هاتن" لم تبكي لأنك ضعيف، بكيت لأنك استنفدت كل القوة، ولم يبقى لك سوى الماء المالح، يغسل ما تبقى من رجاء.. 

"فلمن أبقيت بملء حزنك بينهم؟ وخطاك إن رمتَ المسير مواطن؟" أنت بلا وطن، لا لأن البلاد طردتك بل لأنك حين أردت أن تسكن فيها أشارت لك بالخروج، فأصبحت غريبا حتى في اللغة، تسير دون جهة، وتسأل: لماذا أنا الوحيد الذي لا يعرف أين يعود؟

 "يا سيدي المنسي فامضِ والجوى حرٌّ ودمعك مستشاط ساخن" ولا زلت هنا، لا لأنك لا تريد الرحيل، بل لأن هناك شيئا يمسكك، شيئا يشبه العتب، أو يشبه الحاجة لأن يقول لك أحدهم: كنت أراك. القصيدة لا تقول لك ارحل بل تسألك: لم لا ترحل؟ أليس من الغريب أن تبقى رغم كل هذا؟

 والإجابة التي لا تقال هي الجرح الحقيقيالذي يسكت ولا يشفى. أحمد، أنت لم تكتب عن مجهول بل كتبت عن صديقك الذي جلس أمامك يوما، ولم يجد ما يقوله، فكتب أنت بدلا عنه. إنني أعلم لماذا لا أرحل لكنني… 

لا أريد الحديث فيه. لقد بكيت يا صديقي وأنا اقرأ هذه القصيدة وأكتب عنها، أكتب عن نفسي. لقد تعمدت التركيز عليها..

  ٣. المرسوم الأول للناجي الأخير القصائد التي تكتب عن الحرب، عادة ما تأتي من هناك، من أولئك الذين لم يعودوا، الذين اكتملت فيهم الحكاية، فاستحقوا خاتمة. لكن هذه القصيدة مختلفة. 

كتبت لا من موت، بل من نجاة، لم تكن هدية، بل خطأ إداري. "المرسوم الأول للناجي الأخير" ليست نشيد ولا مديح،  بل دفتر مفتوح على طاولة خالية، كتب بخط مرتجف، لا ليقرأ، بل كي لا يكمل الصمت وظيفته.. 

ذهبنا إلى الحرب ونحن في تمام قسوتنا،  أجسادنا كانت صلبة، أعيننا لا ترتجف، كأننا خلقنا لنقاتل، لا لنعيش. لم نكن نعرف ما سنواجه، لكننا كنا على يقين أننا لن نرجع كما كنا. ركضنا في الرمال، عبرنا الجسور، وداخل كل منا حلم صغير. أحدنا أراد أن يعود ليكمل زواجا مؤجلا، آخر كان يحلم أن يرى ابنه يتعلم اسمه، وثالث…

 لم يكن يريد شيئا، سوى ألا ينسى... والكثير والكثير.. لكننا عدنا، لا منتصرين، ولا مهزومين، بل مكسورين، عدنا نزحف بأجسادنا، لا لأن أقدامنا فقدت، بل لأن ما نحمله في الداخل أثقل من أن ننتصب به واقفين.

 "مشينا للحرب ونحن گصاميل ورجعنا مكسرين ونزحف زحوف" كنا حضيرة، فصيل، سرية، فوج، فرقة، فيلق، جيش، جيوش، أرقام، صور في الأرشيف.

 لكننا عدنا، وعدت، ليس لأنني الأفضل، بل لأن رصاصة ما قررت أن تمر قرب صدري لا خلاله. كل ليلة أستمع للصمت الذي تركه غيابهم، وأمشي في شوارع يعرفني فيها الجميع، لكن لا أحد منهم يعرف أنني لا أنام.. 

لم أُصب في الحرب لكنني ما زلت أنزف؛ لقد سقطوا جميعهم في داخلي. تبدأ القصيدة كما يبدأ الذي لا يريد أن يتكلم، جملة مترددة، لا تدعي شيئا، بل تؤجله: "سيبدأ الحرف يوما ما، ويخبرنا الناجي الأخير، لكيما نحسن الظن" كأن من كتبها، لم يكن يملك الحرف حينها، أو امتلكه، لكنه خاف أن يستخدمه. الناجي في هذه القصيدة، ليس الذي خرج من المعركة سالما، بل الذي عاد بيدين ترتجفان كلما صافحتا الحياة. 

عاد لا لأنه أقوى بل لأنه، لا أعلم لماذا. لماذا بقي حين عبر الموت إلى الآخرين؟! تقول القصيدة: "بأنه عاد منصورا، وفي يده قد ظل أول خيط، يحرس الحصن" فهي لا تعني النصر الذي نعرفه، بل نصرا مشوها لا يشبه المجد، بل يشبه التأجيل.. هو "منصور" لكنه عاد ليحرس، يحرس لا وطنا، بل ذكرى وطن، يحرس لا مدينة، بل موضعا فقد فيه الأصدقاء. ذاك "الخيط" الذي بقي في يده، لم يكن راية، بل بقايا قميص لم يغسل منذ آخر وداع.

 ثم تمر القصيدة على أكثر مشاهدها ظلمة: "وإن فلكه سوف يمضي، غير مستمتع بما تنادونه أن لا تترك الإبنا" الفلك مضى لم يتوقف، لم ينزل سلما، لم يجب على النداء. 

مر وهؤلاء الذين نادوا، غرقوا وهم يرددون أسماءهم، كأنهم يتوسلون للنجاة أن تتذكر من يكونون، لكن الفلك لم يعرفهم، ولم يصغ ومضى... القصيدة لا تسأل لماذا، بل تسجل: أن ليس في الطوفان عدل.. النجاة لا تمنح لمن يستحق، بل لمن لم يكن في المكان الخطأ في الدقيقة الأخيرة. 

وتتابع في مفارقة مدهشة: "آووا لبعض، فلا شيء سيعصمكم مما تطامى، سوى أن تطلبوا الدفنا" الدفن هنا ليس الموت، بل الخلاص منه، أن يطوى الجسد، ويفطى، ويترك له حق السكون، أفضل من أن يبقى صاحبه حيا يتذكر. 

ماذا فعلت بي يا أحمد؟ القصيدة تخلع عن الحياة معناها وتلبس الدفن ثياب الرحمة. وتصل إلى بيتها الجارح، الذي لا يقرأ بل يشهق معه: "وقبل أن تدفنوا، خطوا شواهدكم، هذه حماقاتنا من فوقنا تبنى" لا تبنى المدن على الأحياء، بل على الذين لم يستطيعوا العودة، كل حجر جديد في بناء الدولة، تحته اسم ما، لا يكتب لكن الناجي يعرفه ويصمت عنه، لأن لا أحد طلب رأيه ولا أحد أراد أن يسمع. 

هذه القصيدة لا تقترح ولا تعاتب ولا تشرح. هي فقط تصف ما يحدث بعد أن يغلق باب الحرب، حين يقال للناجين: اذهبوا… عودوا لحياتكم.. لكن لا أحد يخبرهم كيف. كيف؟ "المرسوم الأول للناجي الأخير" هو الورقة التي كتبت لا في الميدان، بل بعد أن جف الدم، بعد أن خرج الجميع، وبقي هو وحده في الخيمة، يراقب الخوذة المعلقة، والصورة التي لا تسقط من الجدار، ويفكر: الذين ماتوا انتهوا؟ أما هو فما زال يمشي بين أسمائهم، كأنما يعتذر عن بقائه. إلى الشاعر أحمد: لقد وجدت  نفسي وروحي هنا، كما لم أجدني من قبل، لقد كنت خير ناطق لما لا يقال. كلفتني القراءة والكتابة كثيرا من الآهات الداخلية والدموع، كثير من تجاهل المحيط، وعدد غير قليل من فناجين القهوة وأكواب الشاي في المقهى الرياضي. فأنت يا أحمد، مدين لذلك المقهى بسعر ما تم شربه.  

شكرا لك صديقي العزيز أحمد. تعال قريبا، بانتظارك في المقهى الرياضي. وإن لم تجدني كفي أن تشرب عني القهوة، ارفع الفنجان وقل نخبك، نخبك يا صديقي أبا عادل.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2025 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن