حسين القاصد
بين الألفة والنفور يعيش المرء، فهو يتآلف ويتنافر، وهذه هي نزعة المخلوقات كلها وليس الإنسان وحده؛ ولقد ظن الإنسان أن العقل والأفكار واللغة تضمن له الألفة متناسياً أنها سبب النفور في الوقت نفسه.
لقد تورط الإنسان باللغة، فهو قبل أن يعرف اللغة بل منذ ولادته امتلك لغةً فصحى يفهمها جميع البشر، وأعني البكاء، وقل مثل ذلك عن الابتسامة، فهما لغتان عالميتان لا تجاريهما أية لغة.
بعقله البسيط أو الذي نظنه بسيطاً عرف الحيوان الألفة والنفور، من دون حاجته لعقل الإنسان وفلسفته وجبروته الفارغ بل حتى لغته!؛
فالإنسان نفسه يتآلف مع الموجودات بالإشارة و سيمياء البيئة، فهو عند إشارات (المرور) تتحكم به ثلاثة ألوان هي الأحمر والأخضر والأصفر، فيمتثل من دون أن يسمع صوتاً لغوياً.في سيمياء الحرب عرفنا المنطقة الخضراء ( في العراق) وهي المنطقة التي اقتطعت جانباً من ( الحارثية) وآخر من ( الكرادة) لتصبح مكانا آمناً للسفارة الأمريكية، والحكومة والبرلمان العراقيين؛ وبذلك نسينا منطقة ( خضراء) تقع في الكرخ جوار ( العامرية)؛ وتسمية ( الخضراء) تسمية حربية، ففي الحروب تكون هناك منطقة حمراء هي المنطقة المشتعلة أو الساقطة بيد العدو، ومنطقة خضراء هي الآمنة حتى وإن كانت فيها سفارة العدو، أما المنطقة الصفراء فهي منطقة التأهب الدائم، لذلك نرى راية (الح شد) صفراء لأنه متأهب دائما ومثلها راية (حzب الله)، ونبقى نحن بمناطق لا لون لها.
هذه الألوان تواضع عليها الناس، وبعضهم تواضع من دون معرفة سبب التسمية، بعد أن وصلتهم الدلالة الواضحة.بالعلامة والإشارة تتآلف المخلوقات، وقد قال أبو الطيب المتنبي: ( شبيه الشيء منجذب إليه)، لذلك بإمكان أية قطة من قارة آسيا أن تأتلف مع أية قطة في أوربا، لكن ليس لإنسان أن يتآلف مع إنسان آخر لأن اللغة تصبح أداة نفور وعدوانية في أغلب الأحيان!!،
فاللغة تقف عائقا بين المرء وعقله!.ألم يكن المتنبي يكره الشيب في بيته الشهير:
ما أبعد العيب والنقصان عن شرفي
أنا الثريا وذان الشيب والهرمُ
لقد كان ينفر من الشيب وكان الشيب عيباً، فما الذي جعله يتآلف مع الشيب في بيته:
خُلقتُ ألوفاً لو رجعت إلى الصبا لفارقت شيبي موجع القلب باكياً
فما الذي دفعه للألفة مع الشيب الذي كان يعده عاراً قبل أيام من قوله هذا؟نعم، ربما هناك مضمرٌ في هذا البيت الموجه لكافور الأخشيدي، فلقد كانت مرحلة سيف الدولة تمثل لأبي الطيب الصبا والعنفوان، لكنه بعد زلزال لغوي انتهى بالفراق التام بينه وبين سيف الدولة، قام المتنبي بالتلويح لنفسه بعزاء لغوي ليرضى بمرحلة الشيب ( مرحلة كافور).
حين تفرغ معدة الإنسان فإنها من دون لغة ولا مساحيق بلاغية تعلن أنها فارغة وترضى حتى بكسرة خبزٍ يابسة!!، لكن حين يفرغ عقله لا يخبره أنه بحاجة لفكرة أو أنه فرغ تماما، بل يأخذه الزهو اللغوي إلى أقسى زوايا العتمة من الجهل؛ وهذا ما نشاهده يوميا لدى أغلب أساتيذ الجامعات الذين يعملون لأغراض الراتب وتحولت عقولهم إلى معدة جائعة للمال لا لتفكير.
الحياة أسئلة وقلق ومن دونهما يتحول الإنسان إلى معدة لأغراض الراتب، بل لا حياة بلا قلق، لأن الاطمئنان موت، كما في قوله تعالى: (( يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي)) وهي لحظة موت الأسئلة.
قال الشاعر أحمد الصافي النجفي في أروع ما قال:
يعترض العقل على خالقٍ من بين مخلوقاته العقلُ
وهذا العقل الذي يعترض هو العقل التساؤلي لا العقل (المعدوي) ولا العقل المدجج باللقب العلمي الذي حوّله إلى معدةٍ تسعى.
المعدة لا تغش، هي تخبر صاحبها أنها فارغة حين يجوع لأنها بلهاء؛ لكن المخ يكابر حتى يكون فارغا ليصبح معدة.
العقل ضحية اللغة، واللغة غريزة وشهوة عظيمة وفخ خطير.المعدة خزان يزهو حين يمتلئ ولا يؤرقك، أما المخ السليم خزان يرتاح حين يفرغ وتنهكه محاولات الامتلاء ويتم تنويمه بالمساحيق البلاغية.صار لي أختم بقول أبي الطيب :
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعمُ.
١٣ / ١٠ / ٢٠٢٥