أ.د خالد حوير الشمس
قبل النفاذ إلى ديوانه الشعري (من كوَّة المعنى)، وتحليله، وتحديد سماته، وبواطن خطابه، للإطلاع على أدبيته، أرغب بالتعريف بهذا الرجل، فهو متعدد المواهب، من جهة أنه أكاديمي، وشاعر فصيح، وشاعر شعبي، مع أني أتحفظ على جمع هاتين الخصلتين، وفي الوقت نفسه خطاط، ووجيه اجتماعي.
وبتفسيري لعنوان المقال، الذي يشكل سؤالا عن شعرية عبد الكريم الشيخ، وعن امتلاكه ناصية الخطاب الشعري؟ بمعنى أنه يجب أن أحلل شعره الذي كتبه، وأقدم أدلة على امتلاكه وعدم امتلاكه لهذا الشعر الذي يتحلى بسمة الخطاب من جهة الموضوع، والقصد، واللغة، ومراعاة السياق، ووجود بعض السمات الأدبية، فسأرى ذلك تباعا.
جعل قيمة عليا للعنوان الذي وضعه على غلاف المجموعة، فجاء أحد عنواناته (من كوَّة المعنى)، وهو غير صريح يدلل على القوة الإضمارية فيه، ويحتاج إلى الوظيفة التأويلية من وظائف العنوان بحسب علم العنونة، إذ لا يدل العنوان على قيمته مباشرة، وإنما يحتاج إلى فضل تأويل، وتحليل، وكذا الأمر في عنوانه الآخر (في آخر السطر)، وهذا يمتلك شعرية أيضا تأتي عبر منفذ التأويل، وليس المباشرة.
ومن دلائل الوعي الشعري، كتابته بنمطين من الشعر، هما الشعر العمودي على أساس الوزن والقافية، وقصيدة النثر التي تقوم على عدم التقيد بالوزن والقافية، بمعنى أنه أجاد العمود أولا، ثم طعَّم ديوانه بخمس قصائد نثرية، وربما هنالك مبررات لهذا التحول، والانتقال، أهمها بيان براعته الشعرية، ومماشاة الحدث الشعري في العراق. في الحكم على لغة الشاعر في ديوانه من كوة المعنى، أحسب أنها لغة دالة، تجنح نحو الحقيقة مرة، أي المباشرة، والوضوح، دونما البيان في الصياغة، وحسبي مثال لهذا المذهب قوله في مديح ميلاد النبي الأكرم ص، حينما يقول: [من كوة المعنى: 5- 6]
وقد تكون اللغة ناصعة، وموغلة في البيان، فيفيد من التشبيه، حينما جعل المخاطب وهو الشعر سحبا، ويفيد من الكناية حينما يستعمل الاحتراق كناية للتوغل في الحب والهيام للشعر، فيقول عن هاتين الصياغتين في بيت واحد، من قصيدته حسب القوافي: [نفسه: 48].
ولم يغادر تقنية الاستعارة، ووظفها في تعبيراته اللغوية ولاسيما في قصيدة (الألسنة الفصاح)، فقال: [نفسه: 37].
جسم فيه ظل الله”: هذه عبارة مجازية؛ فالله سبحانه وتعالى لا يُشبهه شيء، ولا يُنسب له “ظل” بالمعنى الحسي. فالشاعر هنا يستخدم “ظل الله” استعارة للدلالة على القدسية أو الحماية أو الجلال الإلهي الذي كان يحيط بهذا الجسد، وربما يقصد به جسد نبي أو ولي أو شهيد أو شخص له مكانة عظيمة عند الله، والاستعارة هنا تصريحية، لأنه صرح بلفظ المشبه به (الظل) وحذف المشبه القداسة، فمعنى ذلك أن القداسة الالهية ظل مشرع.
تكبو الرياح على أضلاعه: الفعل “تكبو” يُستخدم عادةً للحيوانات حين تسقط على وجوهها، وهنا استعارة مكنية لتصوير ذلّ الرياح أو خضوعها أمام هذا الجسد، أو ربما للدلالة على الهوان الذي أصابه بعد العزة، وكأن الرياح – وهي رمز للقوة – تتعثر عنده، فحذف المشبه به الدابة، وأبقى لازمة منه وهي الكبوة.
ومن جهة الموضوع، والمحتوى في النص، يراعي الشاعر موضوعا مهيمنا في نصوصه وهو موضوع الشعر الديني ولاسيما في ديوانه (من كوة المعنى تحديد)، إذ وردت فيه القصائد ذات الموضوع الديني ومنها: قصيدة في ليلة الميلاد، قيلت في ذكرى مولد الرسول ص.
وقصيدة في مولد النور، قيلت في ميلاد الإمام ع، وقصيدة نفسُ النبي، بحق إمام المتقين ع. وقصيدة يا أخت هارون، ويقصد بها السيدة فاطمة ع. وقصيدة يا ملهم القلب، ويخاطب فيها الإمام الحسين. وقصيدة من وحي ذكرك، مزاوجة بين الإمام الحسين ع وسقوط الصنم 2003.
وقصيدة أتصور الأحداث، شارحة رسالة الإمام الحسين. وقصيدة يا نخبة الله كتبت بحق شخصية دينية هو الشيخ إبراهيم الكرباسي. وقصيدة وأكبرتُ أختك. كتبت بحق شخصية دينية هي محمد باقر الصدر. وكتب عن اليتيم، وعن قيمة الأدب، وعن الأخ، وعن الرثاء لأستاذه، وصديقه، وبعض المناسبات الوطنية.
لم يختلف خطابه الشعري عن أي خطاب شعري آخر، بل سعى للإفادة من التداخل بين النصوص ، وأفاد من المشهورات في الأقوال، فجاء بيته الشعري بحق النبي ص :
هذا فضلا عن تناصه مع النص القرآني أيضا، في قصيدته (في مولد النور)، له بيت يقول فيه:
وهو تناص مباشر مع قوله تعالى: ((أما الزَبدُ فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الارض)). يمتلك الشاعر أسلوبا واعيا، واضحا يتمثل في الحوار، والاستفهام، والنداء، والقسم، والتكرار؛ حتى صارت مهيمنات أسلوبية عنده، فلا يخلو نص من ذلك، وقد أكثر من الاستفهام ممزوجا بالنداء، والتكرار في قصيدته بحق السيدة الزهراء ع، فيقول:
ثمة مهيمن تعبيري في شعره، يتمثل في الإكثار من المحاذاة، والتعادل غفي الصياغة، والمحاذاة يراد بها توليد تعبير من تعبير آخر، بصيغة مختلفة، مثل (تبروا تتبيرا)، وهو ورد في مواضع متعددة من ديوانه، ومنه في قصيدة (يا ملهم القلب):
ميله نحو الغرابة في الاستعمال، والتعبير لبعض المفردات، والتعبيرات الواعية على مستوى الصيغة، والفعل، فيقول في جمع نصل، أنصل وهو مقبول لكنه ليس أكثر من نصال، وكذلك استعماله الفعل تحملق التي باتت مهملة الاستعمال في العصر الحديث، فهو لم يخرج عن بتوقة الفصيح لكنه مال نحو الفصيح الذي أهمل وصار غريبا، فقال في قصيدته (أتصور الأحداث): [نفسه: 34].
وآخرها أن شعره شكل خطابا عبر امتلاكه عددا من السمات، والمقاصد أهما سمة الهوية، التي تعني الانتماء، فكانت هويته ذاتية متمثلة بانتمائه الى الشعر وهذا ما ردده في قصيدته (حسب القوافي)، وهويته دينية، تمثلت في الخطاب الشعري الديني، والقصائد التي قيلت بحق أهل البيت ع والشخصيات الدينية إبراهيم الكرباسي، ومحمد باقر الصدر، ثم هويته المكانية، واعتداده بالشطرة، حينما وازنها مع البصرة في قصيدته (يا بصرة الرؤيا)، وحاول تقريبهما في الخصال، والتمازج، فيقول: [نفسه: 41].
شاعر يجهد نفسه في امتصاص تجارب النصوص السابقة، ويحاول أن يسير الهوينا، ويتطلع إلى اللغة؛ لتنير دربه، ويوصل مقاصده إلى المتلقي بيسر ، وسهولة، فيؤسس لوعي شعري.