موج يوسف
وضع راسل جاكوبي أستاذ التاريخ في جامعة كالفيورنيا اللائمة على الجامعات عندما بحث عن مثقفين ومفكرين يتوجهون إلى الرأي العام ويصنعونه في كتابه ( آخر المثقفين) فرأى أنه لم يعد حضور مثقف أو مفكر من جمهور المتعلمين.
وهذا الرأي يجرني إلى واقع العراق اليوم لاسيما صار متخوماً بالأكاديمين والكثير منهم يحمل لقب ( البروفسور) لكن عندما نبحث عن تأثير هؤلاء في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية نرى تأثيرهم يمر مرّ السحابة الفارغة لا ريث ولا عجل، بمعنى لا ينتبه لحضورهم أو غيابهم وهذا سيلاحظه كل من يتصفح الشاشات والاذاعات ومواقع الانترنت سيرى حضور شخصيات تتلاعب بسكولوجيا الجماهير تتفيه الحوار وتسطح التفكير وتدمر احترام الحقيقة لا علاقة لها بالمعرفة وتخصصاتها كافة، وهنا يحضر السؤال أين هؤلاء الذين يخرجون مئات الطلبة بمراحل البكاليورس والماجستير والدكتوراه من ذوي التخصص العلمي والمعرفي؟ أين تأثيرهم بصناعة خطاب وطني أو هويّة عراقية بعدما تشظت هويتنا؟ لماذا يعاني التعليم من حالة انفصال عن الواقع ؟ بمعنى عندما ندخل الجامعة ونُدرّس الطلبة ونكتب أبحاثا نُلبسها ثياب العصر الفكتوري ( كمثال لا على سبيل الحصر) ولا نتبع موضة اليوم وما يعانيه الواقع من أزمات، فبدت أبحاثنا لا تُشبهنا ولغتها تنمو بمكان وزمان غير الذي نعيشه وهذه هي الأزمة الحقيقة للتعليم العالي : ( حدوث فجوة بين المجتمع والجامعة) فظهرت تجلياتها على كلّ القضايا تباغت بلدنا وآخرها ما حدث مع جامعتنا الأُمّ عندما اتُهمت أبحاثها بالسرقة وانعدام الرصانة العلمية ودخلت المؤشر الأحمر وما إلى ذلك من اتهامات ولأنَّنا نعيش بثقافة الاعلام التي تولد وتموت كل يوم وهي تضخ المعلومات على مدى الساعة فتزاحمت المواقع والقنوات على اذاعة الخبر ومما لاحظته أن الذين كتبوا عن خبر المؤشر الأحمر للأبحاث العراقية واتهموا وزارة التعليم العالي بشتى الاتهامات لم يكونوا منها ولم يدّرسوا في جامعتنا، لذا لم يعلموا أن أبحاث الترقية لا تمرّ بالوزارة ولا برئاسة الجامعة وإنما سير البحث يكون عبر المجلة العلمية المحكّمة وخبرائها جهاز الاستلال والسرقات مكشوفة وموجودة ولا يمكن نكرانها، فهي تحدث في العديد من المؤسسات التعليمة العربية والعراقية والسرقة العلمية كالخنجر الطاعن بخاصرة الأخلاق العلمية والأمانة التي نتعلمها من أساتذتنا بالدرس الأول للكتابة البحثية إذن أساسها الأوّل الباحث وأمانته، واللافت للنظر من هذه الحادثة أمور عدة وهي: صمت الأكاديمين تجاه هذه الحادثة فلم يتحروا عن صحتها أو كذبها من المؤسسة التعليمية وتداولوا الخبر وكأنَّه عابرُ سبيل سيمرُّ ويذهب إلى أرشيف الأخبار الأخرى وهنا تأتي خطورة الصمت الذي يجعلني أفسره بهل هناك عدم الشعور بالانتماء إلى بيئة التعليم؟ أم الجامعة لم تعطِ أي مهارات أخرى اثناء التدريس والتوظيف للأكاديمي العامل فيها؟ لذلك فقدَ نصيبه من الكتابة والدفاع عن مؤسسته. ولم نتعرّف على الكذب المؤشر الأحمر إلَّا من بعض الباحثين وهم خارج أكاديميات العراق كالباحثة سارة ناظم القريشي التي تواصلت مع المركز الاعلامي في التعليم العالي وكتبت مقالة توضح فيه حقيقية الأمر وزيف الشاعات وكانت مقالتها المصدر الخبري الأول لدحض ما نُشر سابقا . وأما الأمر الثاني وهو واسطة عقد الأزمة فيبدأ من الأبحاث نفسها وعلى وجه الخصوص في الميدان الانساني والاجتماعي هل تعالج موضوعات ومشكلات من واقعنا ؟ أم تكتفي بالتنظير الخيالي؟ أم يكرر البحث نفسه بصيغة رمادية؟ ولماذا بدأت هذه التخصصات تفقد أهميتها بسوق العمل؟ وأين مكمن المشكلة بالبحث أم بالجامعة أم بعقل الباحث؟ أم بضبابية الرؤية التعليمة أو انعدامها ؟ لماذا لا تخرجدراسات نقدية للتاريخ ومروياته؛ لتحررنا من أزمة الماضي التي تتفجر بلحظات الحاضر وتحدث انقسامات بين أفراد المجتمع بمختلف عقائدهم وطوائفهم؟ ولماذا يستمر النص الديني بمعناه الجامد بعد أن تمّ القبض على المعنى وحقيقته منذ قرون وفرضها على الناس حتى بوقتنا الحاضر؟ ولماذا البحث في قضايا المجتمع من خلال الأدب ومناقشة الموضوعات التي يمكن تسميتها( بالمسكوت عنه) تعدّ جريمة تهدد الباحث بطرده من جنان الأكاديمية أو تعمل على رفض أبحاثه كما حدث ويحدث لي شخصيا إذ تحول اسمي إلى مصدر قلق للعديد من المجلات العلمية من دون المرور على بحثي يتمّ رفضه ؟ والفلسفة التي باتت مهددة بالموت كختصصانساني في حين استطاعت بعض الدول أن تدمجها كمنهج أساسي في التربية والتعليم لأنها تنشط العقل على السؤال والبحث وتغير أنماط التفكير وهذا ما يحتاجه كل طالب وباحث هو التحرر من التفكير التلقيدي.
لماذا تحولت حياة آلالاف الأفراد تتفاعل مع الوجود بطريقة عفوية أي بمعنى لا يحركون جمجمتهم لا يفكرون؟ ربما الفليسوف شوبنهار أجاب عنها: كلّما قلّ حظ المرء من الذكاء كلّما بدا له الوجود أقل غموضا، وبلادة الشعوب في كونها لا تجد شيئا غامضا يستحق البحث، وهذه الجملة الأخيرة تسيطر على تفكير الباحثوالاكايمي : لا شيء يستحق البحث لأنَّ كلّ الامتيازات في الترقيات ونيل الشهادة العليا هوتحصيل حاصل، والمعالجة لهذا الأزمة هي أن يقدم البحث العلمي استنتاجات أصيلة تخدم المجتمع ولا تنفصل عنه.
ولا يتمّ الا عبر وضع استراتيجية تعليمية تحدد شكل التعليم ومناهجه والتخلي عن المنهج الكلاسيكية وطرائق تدريسها التي لم تعدّ تجعل للعقل صوت ليناقش ويجادل فصحة المجتمعات بقدرتها على ابتكار الجدل المعرفي كما أننا بحاجة النقد ولا اقصد النقد الأدبي وإنما اضافة مادةيمكن تسميتها بالتفكير الناقد لأنها تتيح تقبل التعددية وتفضي إلى إمكانية التغيير الذاتي والذي بدوره يغيير المجتمع وقضاياه غير الانسانية فإن تمّ تنظيم التعليم في مجالاته البحثية والمنهجية سيكون اقدر في تحقيق أهداف الدولة المتطورة، والتعليم كما اسميه عقل الدولة ، ومن أصغر الأشياء تولد أكبر الأفكار ( كما محمود قال درويش) وسأضع فكرة الاستاذ الذي ألهم طلابه الأفكار الكبرى في فيلم Dead Poets Socity من خلال تعليمهم الأدب والعلوم الانسانية فحتى الطبيب بتخصصه العلمي يحتاج اكتشاف ذاته وتغيرها فكل تغير خارجي يبدأ من الداخل.
والقارئ لما تقدم قد يفسره بأن مؤسستنا الأكايمية تعيش من دون كفاءة ومهارات أقول ليس كذلك، لكنه سيبدو كذلك، بمعنى : إن الجامعات تسير بنظام تلقيدي مهترئ هو تفضيل الرتبة العلمية وكبر سن الأستاذ على الكفاءة فمثلاً ( البروفسور) الذي اكتفى بأبحاث الترقية وتجمّد فكره يكون صاحب الامتياز بكل شيء في حين قد يكون المدرس أو المدرس المساعد الشاب لديه العديد من المهارات والأنشطة الخارجية ولغة ثانية ومؤلفات ويترجم كتباً لكنَّه مُهمشٌ بحكم رتبته العلمية الصغيرة، فضلا عن التفضيل الذي فرضته المحاصصات في توزيع المناصب فلا بد من معالجة هذا الأمور. إن المؤسسات التعلمية كلّما كانت حرة ومنفتحة على النقد كلّما كانت أقدر على حلّ مشكلات المجتمع كما يقول الفيلسوف كارل بور" المؤسسات الحرة تتيح لنا تغيير رأينا فيما ينبغي أن يكون عليه الحكم، وأن نضع هذا التغيير موضع التنفيذ دون إراقة دماء". ونحن أشد الحاجة إلى التغيير الجذري.