منتصر صباح الحسناوي
سؤال يبدو بسيطاً، لكنه يحفر عميقاً في ذاكرة الدولة العراقية منذ تأسيسها قبل قرن، ويكشف مسيرة طويلة من المحاولات لصياغة هوية وطنية تعكس حقيقة المجتمع أحياناً، أو تخفيها أحياناً أخرى.
منذ دستور 1925 الملكي، كانت النصوص تحمل رؤية النخبة الحاكمة أكثر مما تعبّر عن جميع العراقيين.
صوّر العراق كدولة عربية إسلامية ذات ملكية نيابية. نصّت مواده على:
المادة (3): العربية هي اللغة الرسمية للدولة.
المادة (6): الإسلام دين الدولة الرسمي.
المادة (13): حرية القيام بشعائر الأديان المختلفة مصونة ما دامت لا تخل بالنظام العام ولا تتنافى مع الآداب.
المادة (77): لأهل العراق من القوميات المختلفة حق التعليم بلغاتهم الخاصة وفقاً للقانون.
هذه النصوص أشارت للتنوع إشارة عامة، لكنها لم تذكر المكونات العراقية بالاسم، ولم تمنحها أي حضور سياسي فعلي، وعليه بقيت الهويات الكردية والتركمانية والآشورية وغيرها على الهامش، خارج النصوص والقرار.
بعد 1958، ومع قيام الجمهورية، حملت الدساتير نفس الروح المركزية، لكنها اصبحت أكثر صخباً قومياً، نصوص مثل:الدستور المؤقت 1958، المادة (3): العراق جزء من الأمة العربية ويسعى لتحقيق وحدتها الشاملة.
الدستور المؤقت 1970، المادة (5): يتكون الشعب العراقي من قوميتين رئيسيتين هما العربية والكردية ويضمن الدستور حقوق القوميات الأخرى.
هنا باتت الهوية الرسمية للعراق عربية بالدرجة الأولى، واعتراف دستور 1970 بالكرد بقي مقتضباً ولم يغير من مركزية الهوية العربية شيئاً، ظلّ التنوع أقرب إلى تسوية سياسية منه إلى اعتراف دستوري فعلي.
ثم جاء دستور 2005، في ظرف مختلف، ليقدّم رؤية جديدة للهوية.
لأول مرة نجد النصوص تُكتب بلسان الواقع لا بلسان السلطة وحدها، في ديباجته نقرأ: "نحن أبناء وادي الرافدين، موطن الرسل والأنبياء ومثوى الأئمة الأطهار ومهد الحضارة، صانعو الكتابة وروّاد الزراعة وواضعو أولى الشرائع، على أرضنا سنّت أولى القوانين… على يدينا قامت أولى المدن، وفي أرضنا خطّت أروع الملاحم.
نحن شعوب العراق وأعراقه وأديانه ومذاهبه، مجتمعين على حب العراق وعلى بنائه، والتعايش فيما بيننا، متعهدين أمام الله وأمام الشعب وأمام التاريخ…"
وفي مواده الأساسية:
المادة (1): جمهورية العراق دولة اتحادية واحدة مستقلة ذات سيادة كاملة، نظام الحكم فيها جمهوري نيابي (برلماني) ديمقراطي.
المادة (2): الإسلام دين الدولة الرسمي، وهو مصدر أساس للتشريع، مع الحفاظ على كامل الحقوق الدينية لجميع الأفراد في حرية العقيدة والممارسة الدينية.
المادة (3): العراق بلد متعدد القوميات والأديان والمذاهب، وهو عضو مؤسس وفعال في جامعة الدول العربية وملتزم بميثاقها.
المادة (4): اللغة العربية واللغة الكردية هما اللغتان الرسميتان للعراق… وتضمن الدولة حق العراقيين بتعليم أبنائهم بلغاتهم الأم كالتركمانية والسريانية والأرمنية في المؤسسات التعليمية الحكومية.
لأول مرة أصبح التنوع جزءاً من النصوص لا هامشاً فيها، وتحوّلت الهوية التعددية إلى التزام دستوري لا مجرد شعار سياسي.
ومع ذلك، ظل الواقع أبطأ من النصوص. التحدي بقي في تحويل هذا الوضوح إلى ممارسة سياسية واجتماعية، وإلى عقد أخلاقي يربط الجميع بوطن واحد.
اليوم تبدو الهوية العراقية كما كتبها الدستور أكثر وضوحاً من أي وقت مضى، فهي هوية عراقية جامعة، تعترف بتعدد الأعراق والأديان والمذاهب، لكنها تؤكد وحدة الجميع تحت سيادة العراق الواحد. هوية مركبة بمضمونها، مرنة في تفاصيلها، تعكس ثراء المجتمع العراقي وتنوعه، لكنها تبقى موحدة في غاياتها، جامعة في روحها، راسخة على أرض العراق وسيادته.
وضوح هذه الهوية يحمّل الدولة والمجتمع مسؤولية حمايتها وتعزيزها، لا كعبءٍ يُدار، وانما كقيمة وطنية تُحتضن وتصان، بوصفها الرابط الأقوى بين العراقيين جميعاً، والمظلة التي تظلّلهم على اختلافاتهم.
تحت هذه الهوية، يصبح التنوع قوة، والوحدة اختياراً واعياً، والسيادة إطاراً لا يقبل القسمة، لتبقى هوية العراق كما رسمها دستوره: عراقية أولاً، وجامعة دائماً.
ولهذا، فإن الأزمة — إن وُجدت — ليست فيما نص عليه الدستور، بقدر عدم المعرفة أو التغاضى عن تطبيقها. فالنصوص موجودة، والمسؤولية أن تفهم وايضاً أن تصبح واقعاً.