05A2EDD17376135DD5B5E7216D8C98DB
26 Jun
26Jun


منتصر صباح الحسناوي


ستغدوُ حفلاتُ بيروت أقلَّ إثارة، حينَ تُفتَحُ قاعاتُها تحتَ سماءٍ فارغةٍ من صواريخِ 

إيران التي اعتادت أن تزيِّنَ المشهدَ باتجاهِ الكيان. سيسهرُ البعض، يغنّون ويرقصون، لكنَّ شيئاً ما سيكونُ ناقصاً… ذلك الشعورُ الذي كانَ يختلطُ فيهِ الفرحُ بالمواجهة، والنشوةُ بمشاهدِ الصواريخِ وهي تتجهُ نحوَ فلسطينَ المحتلة.

وإذ تهدأُ السماء لا تهدأُ الأرض، فالحربُ في الشرقِ الأوسطِ جولاتٌ تُدارُ بصمتٍ على طاولاتِ السياسة، تُكتبُ فيها هدنةٌ بملامحِ سلامٍ هشّ، وملامحِ حربٍ مؤجلة.ما جرى بين إيران وإسرائيل إطارٌ دونَ صورةٍ واضحة، ملتهبٌ يشتعلُ تحتَه الرماد، ينتظرُ نفخةَ خلافٍ أو شرارةَ طمعٍ أو خطأَ حساب.

المشهدُ الذي بدأَ بضرباتٍ إسرا١ئيليةٍ خاطفة استهدفَت قياداتٍ عسكرية وعلماءَ نوويين في عمقِ طهران، اندفعت فيهِ المعركةُ تحتَ شعارِ “ضربةٌ قاصمةٌ تنهي البرنامجَ النووي الإيراني”.

 أكثرُ من مئتي طائرةٍ حربيةٍ شاركت في الموجةِ الأولى للهجوم، مع تصور أنَّ الضربةَ ستُنهي المعركةَ خلالَ ساعات، لكنَّ الحساباتِ التي صيغت في غرفِ العملياتِ سقطت أمامَ معادلاتِ السماءِ، عندما رسمت الصواريخُ بمدياتِها الطويلةِ حدوداً جديدةً للمواجهة.القيادةُ الإيرانيةُ ما لبثت أن تنفضَ عن عباءتها غبارَ الضرباتِ منذَ اليومِ الأول، لتردَّ بموجاتٍ من صواريخ غيرِ مسبوقةٍ شهدتها فلسطينُ المحتلة، فيما فشلت إسرا١ئيلُ في شلِّ قدرةِ إيران على الرد، رغمَ الضرباتِ العنيفةِ التي طالت منشآتٍ حيوية.

إيرانُ خرجت بوعيٍ جديدٍ لمعطياتِ المرحلة، أمرٌ استعدَّت له منذَ سنواتٍ طوال، بالتقدُّمِ شرقاً بوسائلِ القوةِ الصلبةِ، الذي أصبحَ خياراً بالغَ الكلفةِ عليها، وخريطةُ المصالحِ أصبحت أكثرَ وعورةً من أيِّ وقتٍ مضى.الإدارةُ الأمريكية، رغمَ الخطاباتِ الرنانةِ والحادّةِ تجاهَ إيران، لم تنغمسْ بشكلٍ مباشرٍ في المعاركِ، وهوَ ما أحرجَ حكومةَ الكيان، التي تنفّست الصعداء حينَ تغيّرَ مسارُ المعركةِ بضربةٍ محدودةٍ على منشآتٍ إيرانية من قبلِ القواتِ الأميركية، التي لم تنخرطْ في معركةٍ شاملة بلسان حال يقول “اشتغل وحدك يا نتنيا١هو”، رسالةٌ واضحةٌ وصلت إلى تل أبيب دونَ مواربة. الحساباتُ الأمريكيةُ لم تكن معنيّةً بحسمِ المعركةِ لصالحِ إسرائيل بقدرِ ما كانت تهدفُ للحفاظِ على معادلةِ التوازنِ القلقِ في الشرقِ الأوسط.بقاءُ إيران قويةً بما يكفي لإبقاءِ محيطِها العربي في دائرةِ القلق، وضعفُها بما يكفي لتجنبِ تهديدِ المصالحِ الأمريكيةِ والإسرا١ئيلية، هو الإطارُ الذي تُدارُ به اللعبةُ منذُ عقود. معادلةٌ لم تعدْ مقبولةً بذات القدر في عواصمَ عربيةٍ وإسلامية، التي باتت تدرك أنَّ أمنَها لا يمكنُ أن يبقى رهينةً لهذه التوازناتِ المختلّة.في قلبِ هذا المشهد، برزَ دورُ بعضِ الدولِ العربيةِ بشكلٍ غيرِ قابلٍ للتجاهل.

 فالجميعُ لا يريدونَ حرباً طويلةَ الأمد، ولاسيّما مع الكيانِ، لأنّهُ سيضرُّ بمصالحِهم من جهة وأيضاً سيضعُهم في موقفِ الحرجِ تجاهَ التعاطفِ الشعبيِّ المتنامي مع ضرباتِ إيران ومشاهدِ الدمارِ في مدنِ فلسطينَ المحتلة.“قطر” تحديداً لعبت دوراً محورياً في دفعِ جهودِ الوساطة، مستثمرةً شبكةَ علاقاتِها المفتوحةِ مع كلِّ الأطراف.تركيا أيضاً، كانت حاضرةً بموقفٍ سياسيٍّ لافت، دعمٌ معلنٌ للحقِّ الفلسطيني واصطفافٌ واضحٌ مع إيران في رفضِ التمادي الإسرائيلي، موقفٌ عكسَ تحوّلاً استراتيجياً في قراءةِ أنقرة للمشهد، بعيداً عن حساباتِ التوازنِ مع الغرب وأقربَ إلى منطقِ بناءِ قوةٍ إقليميةٍ مستقلة.

أما العراق، فكان حاضراً في المعادلةِ بخصوصيةٍ شديدة، مع الموقف الثابت ضد العدوان الصهيوني لكنهُ في الوقت نفسه أدارَ الموقفَ بذكاءٍ يُحسبُ له، إذ نجحَت الحكومة في تحركها الدبلوماسي ضد الاعتداء لدعم استقرار المنطقة دونَ أن ينزلقَ البلد إلى مواجهةٍ مباشرةٍ، مستثمرة فسحةَ الاستقرارِ النسبيِّ التي يعيشُها العراق وايضاً ماصدر من مواقف ايجابية من الرموز الدينية والسياسية لتجنب أيَّ عمل يُهددُ أمنهُ الداخلي أو يُربكُ مسارَ تعافيهِ السياسيِّ والاقتصادي.

هذه المعركةُ كشفت عن فراغٍ واضحٍ في منظومةِ الأمنِ الإقليمي، ومع هذا الفراغ، بات الحديثُ عن تكوينِ قوةٍ إقليميةٍ عربيةٍ إسلاميةٍ أقربَ إلى الواقعيةِ من أيِّ وقتٍ مضى، ولعلَّ ذلك نظرياً ما دعا إليهِ الرئيسُ التركي، ايضاً ما شجع على ذلك صورةَ إيران التي تغيّرت بشكلٍ دراماتيكي في الوعيِ العربيِّ والإسلامي، ولاسيّما بعدَ تصريحاتِ مؤسساتٍ دينيةٍ كالأزهرِ، ومراكزَ فكريةٍ في العالمِ العربي، التي وجدت نفسَها أمامَ مشهدٍ مغايرٍ تحولت بهِ إيران من النظر اليها بالبعد  الطائفي إلى قوةٍ إسلاميةٍ تواجهُ العدوَّ الصهيوني.

تدريجياً، صارَ واضحاً أنَّ استمرارَ الحربِ كانَ سيمنحُ إيران بُعداً ونصراً معنوياً يتجاوزُ حدودَ الجغرافية. حكومةُ تل أبيب أدركت أنَّ الوقتَ لم يعدْ في صالحها، فبدأت تراجعُ حساباتِها، في وقتٍ ظهرَ نتنيا١هو منهكاً، غارقاً في موجاتِ الاتهامِ والخذلان.كذلكَ لم تَخلُ أروقةُ السياسةِ في واشنطن من نقاشاتٍ صاخبة بين مؤيدٍ ومعارضٍ لتدّخلِ الرئيسِ ترامبَ في هذهِ المعركة، وهم بالمجملِ  يتفقونَ على حقيقةٍ جيوسياسية واحدة: إنَّ الشرقَ الأوسطَ لم يعُد يتحمّلُ معاركَ طويلةً. كلُّ تصعيدٍ يمنحُ خصومَ أمريكا المزيدَ من الفرص، ويفتحُ البابَ واسعاً أمامَ قوى إقليميةٍ وربما دولية، لتوسيعِ حضورِها في المنطقة.


المعركةُ توقفت لكنها لم تُغلَق، مشهدُ الحربِ تركَ وراءه خرائطَ ملتهبةً وحدوداً مشتعلة،  السلامُ الذي وُقّع تحتَ الضغطِ ليسَ أكثرَ من إطارٍ هشٍّ، يُبقي الجميعَ في دائرةِ التوترِ المعلّق.. هدنةٌ مرهونةٌ بالتحولاتِ السياسيةِ في واشنطن وتلّ أبيب وطهران، وقد تعودُ صافرةُ البدايةِ من جديد، حينَ تتغيّرُ معادلاتُ القوةِ أو يتبدّلُ ساكنُ البيتِ الأبيض.

الدروسُ التي يجبُ أن تُقرأَ ليست بعيدةً عن ذاكرةِ حربَي الخليج، ولا عن تجربةِ حربِ 2006، التي رغم تفوّق إسرائيل العسكري لم تنتهِ كما أرادت، وظلت عنواناً لأزمةٍ استراتيجيةٍ عالقة في الذاكرةِ. 

 الثقةُ بالمستقبلِ حين يكونُ مرهوناً بقراراتِ العواصمِ الغربية، رهانٌ محفوفٌ بالخسائر. اتفاقياتُ السلامِ قد تُوقّع، لكنها لا تُلغِي الحاجةَ إلى بناءِ قوةٍ إقليميةٍ حقيقية، مبنيةٍ على التكاملِ التنمويِّ والاقتصاديّ، وقبلَ ذلكَ نبذِ الفتنِ الداخلية وحفظِ الأمنِ، والتطورِ التكنولوجيِّ،  الذي يمكنُ من خلالهِ إعادةُ صياغةِ التوازنِ في المنطقة، لأنَّ من لا يملكُ أدواتِ أمنِه، سيبقى أسيراً لأمنِ الآخرين.

واليدُ لا تُنزِلُ عن الزناد، لكنهُ الآنَ زنادُ العلمِ الذي يحكمُ السلاح.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2025 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن