بقلم: نصير العلي
في سابقة لافتة في العلاقات الدولية، بات الكيان الإسرائيلي يعلن بصراحة لافتة عن نواياه في تفكيك حكومات الإسلام السياسي، بدءًا من طهران، مرورًا بإسلام آباد، ثم أنقرة، بالتوازي مع تصريحات متكررة بشأن التوسع السياسي والأمني في المحيط العربي وصولًا إلى مصر وسوريا والأردن والعراق وحتى المملكة العربية السعودية. هذه التصريحات، التي كان يُفترض – في منطق الدبلوماسية والصراع الكلاسيكي – أن تبقى في خانة الأهداف السرية، تُطرح اليوم على منابر علنية، ما يفرض قراءة معمقة تتجاوز السطح السياسي إلى الجذر الجيوإستراتيجي للأزمة.
الإعلان الصريح… متغير جديد في الحرب الباردة
الإعلان العلني عن استهداف حكومات بعينها يذكّرنا بما عرف بـ”عقيدة بوش” بعد 11 سبتمبر، حين تم تصنيف “محور الشر” بشكل مباشر. لكن هذه المرة، المشهد يتجاوز الأمن القومي الأمريكي ليأخذ بعدًا إسرائيليًا خالصًا، في ظل فراغ دولي واضح وتغير موازين القوى الدولية.
إسرائيل، بمثل هذه التصريحات، تؤسس لحرب باردة جديدة، ولكن من نوع ديني/سياسي، حيث يُراد للإسلام السياسي أن يُجتث من مراكزه لا بوصفه خطراً أمنياً فقط، بل كـ”نمط تفكير وتأثير” يُعرقل إعادة تشكيل نظام عالمي أكثر براغماتية، وأكثر فصلًا بين الدين والسياسة.
الخارطة الجديدة: ما بعد القومية والدين؟
لا يُمكن قراءة هذه التصريحات الإسرائيلية بمعزل عن مشروع إعادة إنتاج “الشرق الأوسط الجديد”، لكن بنسخة محدثة: الشرق الأوسط العلماني المحكوم بمنظومات تكنوقراطية واقتصادية لا دينية، حيث يُعاد تعريف “الشرعية” السياسية وفقًا لمعادلات تتقاطع مع مصالح الغرب والكيان، لا مع الإرادات الشعبية أو الخلفيات العقائدية.
بمعنى آخر، نحن أمام هندسة سياسية للمستقبل، يتم فيها تجريد الدين – ليس فقط الإسلامي – من تأثيره في الفعل السياسي، ومنعه من الدخول إلى معادلة الحكم، وهو ما يتطابق مع النمط السائد في بعض أجزاء أوروبا وأميركا التي بدأت تُظهر عداءً متزايدًا للتيارات الدينية كفاعل في المجال العام.
لماذا طهران أولاً؟ ولماذا باكستان وتركيا لاحقاً؟
الترتيب الزمني المعلن لاستهداف هذه الحكومات ليس عبثياً. طهران تمثل النموذج الأكثر تحدياً أمنيًا، ولديها نفوذ عقائدي واجنحة مسلحة ممتد في أكثر من بلد عربي. إسقاطها يعني إسقاط العمود الفقري لما تسميه إسرائيل بـ”هلال النفوذ الشيعي”. ثم تأتي باكستان كقوة نووية إسلامية يُنظر إليها باعتبارها قنبلة نائمة. وأخيراً تركيا، النموذج السياسي الأكثر مرونة وقبولاً في الشارع الإسلامي، ولكن في ذات الوقت “الحلقة المعتدلة” التي يمكن – برأي إسرائيل – كسرها عبر الضغوط الاقتصادية والسياسية.
التوسع نحو العرب… تصفية لما تبقى؟
لا تخفي إسرائيل، ضمنيًا، رغبتها في إعادة تعريف الحدود والسيادة الإقليمية، لا من خلال احتلالات مباشرة، بل عبر “التمكين الهادئ” من داخل الدول، عبر النفوذ الأمني والاستخباري، وتحييد النخب المؤثرة، وتفتيت القناعات الوطنية التقليدية.
من مصر وسوريا إلى العراق والأردن، والآن المملكة العربية السعودية، تسير المقاربة الإسرائيلية وفق مسارين متوازيين: تحييد الإسلام السياسي داخليًا، وتقويض أي مشروع قومي عربي نهضوي.
خلاصة: هل نحن أمام خارطة مستقبلية بلا دين؟
الإجابة الأقرب إلى الواقع: نعم. إسرائيل لا تتحدث فقط عن إضعاف خصومها، بل عن تصفية البنية الإيديولوجية التي تقف وراءهم. وبهذا، فهي لا تُوجّه خطابها لحكومات أو أنظمة فحسب، بل إلى عقل الشعوب، في محاولة لبناء نظام إقليمي جديد منزوع الدسم الديني، وخاضع بالكامل لمنطق السوق، والتحالفات الأمنية، والمصالح الغربية.
يبقى السؤال المطروح على صانع القرار العربي والإسلامي: هل ننتظر حتى تُفرض علينا هذه الخارطة؟ أم نملك أدوات صياغة بديلة، تحفظ التنوع وتحمي السيادة وتُعيد التوازن للعلاقة بين الدين والدولة دون استئصال أحدهما؟