د. محمد القريشي
تعيش إيران حالة قلق وعزلة متجذّرة وعابرة للعهود والحكومات، وهي حالة تؤثر بعمق في سلوكها الخارجي واستراتيجياتها الإقليمية.
يتجلى “شعور العزلة” الإيراني تاريخيًا في سلسلة من التجارب المريرة مع القوى الكبرى، والتي أنتجت "انعدام ثقة مزمن" بالتحالفات الخارجية، وعلى وجه خاص مع الغرب.
ففي عام 1807، خذلها نابليون رغم توقيعه معها على معاهدة فينكنشتاين، التي نصّت على الحماية من التوسع الروسي، ثم انقلب عليها بعد شهرين بتحالفه مع روسيا في معاهدة تيلسيت.
وفي عام 1907، اقتسمت بريطانيا وروسيا أراضيها ضمن اتفاقية (لندن–سانت بطرسبرغ)، دون اعتبار لسيادتها.وفي عام 1940، عرضها هتلر على الاتحاد السوفييتي كمنطقة نفوذ سوفييتية، ثم جاء بعد ذلك اتفاق ستالين وتشرشل عام 1941 على تقاسم النفوذ فيها ضمن ترتيبات الحرب العالمية الثانية ومصالح ما بعدها.
وتعاونت، لاحقًا، الولايات المتحدة مع بريطانيا بين عامي 1953 و1979 لتقويض استقلال إيران، بما في ذلك الانقلاب على حكومة محمد مصدق المنتخبة، الأمر الذي عمّق الإحساس الإيراني بعدم صلاحية الغرب كشريك موثوق.
أما في الجوار الآسيوي، تعي ايران بأنها لن تحظى بعلاقات متكافئة مع القوى الكبرى مثل الصين وروسيا والهند، وان علاقتها ستكتسب شكل التبعية لا الشراكة.
وفي المجال الإقليمي، حال العامل الطائفي دون تطبيع علاقاتها مع محيطها العربي، بينما تتسم علاقتها مع تركيا بالحذر والتنافس الجيوسياسي رغم استمرار تبادل المصالح وبعض الملفات المشتركة (مثل الأكراد وداعش).
إلى جانب شعور العزلة، يهيمن على النخب الإيرانية طموح استعادة العظمة الإمبراطورية، انطلاقًا من كونها وريثة لإرث فارسي عميق، امتد منذ القرن الأول قبل الميلاد من اليونان إلى باكستان، مرورًا بشمال مصر، ومحمّل برصيد ثقافي ومعماري وفكري معتبر.
هذا المزج بين العزلة والبحث عن العظمة يدفع إيران إلى تحصين كيانها أمام التهديدات، وتوسيع نفوذها عبر شبكة حلفاء في العراق، ولبنان، وسوريا، واليمن، مستندة إلى استراتيجية “الإيذاء عن بُعد”.
في المقابل، تعيش إسرائيل قلقًا وجوديًا دائمًا، يستند إلى ذاكرة تاريخية مثقلة بالأحداث وآخرها رفض العرب لقيامها، وسلسلة الحروب التي خاضتها لتثبيت الوجود في بيئة معادية.
وتمتلك الجماعة اليهودية، اضافة الى ذلك،، مشاعر "التميز" استنادا إلى قدرتها على المحافظة على هويتها الثقافية عبر التاريخ وتأثيراتها الثقافية والاقتصادية والعلمية في المجتمعات التي عاشت فيها.
هذه المشاعر المركبة، تحوّلت إلى مكوّن فعّال في عقيدتها العسكرية، جعلتها تُصنّف الفاعلين الإقليمين إلى “أصدقاء” و”أعداء”، وتسعى إلى تحقيق التفوق العسكري على جيرانها باي شكل من الأشكال .
من هذا المنطلق، تنظر إسرائيل إلى أي مشروع نووي في المنطقة على أنه تهديد وجودي، وترى في تصاعد النفوذ الإيراني في محيطها، محاولة استراتيجية لخنقها على المدى البعيد.
ناقش عالم الاجتماع الإسرائيلي باروخ كيمرلينغ هذه الإشكالية في كتابه “الصهيونية والأرض”، معتبرا “الخوف من الإبادة” و”الهوس بالسيطرة على الأرض” ركنين أساسيين في الهوية القومية الإسرائيلية.
وبيّن كيف تشكل النزعة الاستيطانية "آلية حماية" للجماعة اليهودية في مواجهة قلقها الوجودي، وأثر "استمرارية الإحساس بالتهديد" على النزعة التوسعية.
وفي موقع آخر ، سلط كيمرلينغ الضوء على دور المؤسسة العسكرية الإسرائيلية في رسم حدود “الواقعية السياسية”، وتقدمها على القيادة المدنية في اغلب الاحيان كما أظهرته احداث العقود الماضية في تفضيل القوة على الدبلوماسية، والردع على التسوية وبينته عقيدتها العسكرية.
في ظل هذا التناظر النفسي العميق بين إيران "حاملة مشروع الثورة الإسلامية" وإسرائيل "حاملة المشروع الصهيوني , ينكر كل طرف منهما ضمنيا "مشروعية قلق الآخر" ، ويؤمن بأنه الضحية الوحيدة، مقابل الطرف الاخر الذي يكتسب دور المعتدي.
بهذه الطريقة، تتأسس التهديدات الوجودية، وتتصارع الذاكرات المتباينة، وتطغى على أدوات العلاقات الدولية التقليدية مثل المصالح، والتوازن، والردع، لتُصبح القطيعة، أو محاولة تقزيم الآخر، هي الوسيلة الوحيدة لضمان البقاء الآمن.