02 Oct
02Oct


منذُ أن انضمَّ العراق إلى عُصبةِ الأُمم كأوّل دولةٍ عربيّةٍ تنال استقلالها في الثالث من تشرين الأول عامَ 1932، كان العراقيّون أمامَ لحظةٍ فارقةٍ تُشبه إعلانَ الميلاد في وجه التاريخ، خروجُه "الرّسميّ" من الوصايةِ ورفعُ علمه بين أعلام الدول هو اعترافٌ بكيانِه كدولةٍ ذاتِ سيادةٍ وحدود، وعلى الرغم من أنَّ كثيراً من الدول اتّخذت من انضمامِها إلى عصبةِ الأمم تاريخاً ليومها الوطني ، غير أنّ هذا اليوم لم يتحوّل في العراقِ إلى يومٍ وطنيّ ثابت، إذ ظلَّت الأنظمة السياسية المتعاقبة تختارُ تواريخ مختلفة وفقَ رؤيتها وأجندتِها.


ففي العهد الملكيّ كان التّركيزُ على يومِ تتويجِ الملك فيصل الأوّل في 23 آب 1921، وفي العهد الجمهوري أصبح 14 تموز هو يوم الثورةِ وإعلان الجمهورية ، بينما كرَّس النّظامُ السابق 17 تموز باعتبارِه عيداً للانقلاب الذي أوصلَه إلى السّلطة.

وبعد 2003 ظلَّ النّقاشُ قائماً لسنواتٍ طويلةً حتّى استقرَّ الأمرُ أخيراً على اعتماد الثالث من تشرين الأوّل يوماً وطنيّاً، لأنَّه اليومُ الذي يرمزُ إلى استقلال الدّولة الحديثة بعيداً عن الانقسامات الحزبية والآيديولوجيّة.


هذه الحقيقة تمنحُ اليومَ الوطنيَّ بُعداً إضافيّاً عن كونِه ذكرى للاستقلال ليكون رمزيّةً تجمعُ العراقيين جميعاً، لا يرتبطُ بزعيمٍ أو حزبٍ وإنّما بالدّولةِ نفسها.


وهنا يبرزُ السّؤال: كيف يمكن استثمارُ هذا اليوم ليصبح أكثرَ من مناسبةٍ بروتوكوليّة، وليتحوّل إلى منصّة وطنيّة متجدّدة؟من النّاحية السياسيّة، يمكن لليوم الوطني أن يكون فرصةً لتجديد الشّرعيّة وإرسالَ رسائل للعالم، فالخطابات الرسميّة ينبغي أن تتجاوز المجاملات لتقدّمَ رؤيةً واضحةً لمستقبل العراق، وأن يُستثمرَ حضورُ السّفراء والبعثات الدوليّة لتأكيد موقع البلد في الخارطة الجيوسياسية، كما يمكن أن يُربطَ هذا اليوم بإطلاق مشاريع إستراتيجية كبرى أو اتفاقيّات مهمّة، بحيث تغدو الذّاكرةُ الوطنيّةُ حاضنةً للإنجازات ولا تقتصرُ على الاحتفالات.


على المستوى الثّقافي، يحمل اليوم الوطني معانٍ أُخرى، فالعراقُ بلدٌ متعدّدُ الهويّات، وهذا اليومُ يمكن أن يكون مسرحاً لإبرازِ هذا التنوّع كقوّةٍ جامعة من خلال المهرجانات الفنّية والأسواقِ التراثيّة والعروض الشعبيّة، يرى المواطنُ نفسَه جزءاً من لوحةٍ أوسع، ويتذكّر أنَّ الانتماءَ للدّولة لا يختصرُه انتماؤه الفرعي.المدارسُ والجامعاتُ أيضاً يمكن أن تحوِّل المناسبة إلى درسٍ حيٍّ للأجيال، يشرحُ معنى الاستقلال والهويّة الوطنيّة.


أمّا اقتصاديّاً وسياحيّاً، فإنّ اليومَ الوطنيَّ يملك طاقةً كبيرةً إذا ما استُثمِر بطريقةٍ ذكيّة، يمكن أن يتحوّل إلى مهرجان جذبٍ للسّياحةِ الداخليّة والخارجيّة، ينعشُ الأسواقَ المحليّةَ ويُشركُ القطاعَ الخاصَّ بحملاتٍ وعروضٍ اقتصاديّة، وإعلان مشاريعَ كبرى في هذا التّاريخ سيجعلُ من الثالث من تشرين الأوّل موعداً يرتبطُ في الذّاكرةِ بالإنجازِ والتّجديد.


وعلى الصّعيدِ الاجتماعيّ، يمكن أن يكون موعداً لتجديدِ العقد بين الدّولة والمجتمع، بدلَ أن تبقى الاحتفالاتُ حكّراً على القاعاتِ الرسميّة ، يمكن إطلاقُ مبادراتٍ تطوعيّةٍ في المدنِ والقرى: حملاتُ تنظيفٍ وتشجير، إعمارُ مدارس، أو دعمٌ للفئاتِ الضّعيفة، بهذا يتحوّل اليومُ إلى تجربةٍ مشتركةٍ يعيشُها المواطنون.

كما يمكن أن يكون مناسبةً لتكريمِ الرّموزِ الوطنيّة من علماء وأطبّاء وجنود ومبدعين، ليشعرَ كلُّ فردٍ أنّه جزءٌ من الوطنِ وأنَّ الدّولةَ تتذكرُه في يومِها الجامع.


أمّا في البُعدِ البروتوكولي والإعلامي، فإنّ الثالثَ من تشرين الأوّل يحمل رمزيّةً لا تقلُّ عن بقيّةِ الأبعاد: "رفعُ الأعلام" وعزفُ النّشيدِ الوطنيّ، مشاركةُ البعثاتِ الأجنبيّة، كلّها مشاهدُ تبني صورةَ العراقِ في الدّاخل والخارج.الإعلامُ بدورِه قادرٌ على أن يحوِّل المناسبةَ إلى مادّةٍ مُلهمة، تربطُ الماضي بالحاضرِ وتقدّمُ العراقَ كدولةٍ تملك تاريخاً غنيّاً وحاضراً قادراً على النّهوض.


إنّ استثمارَ اليوم الوطنيّ يعني أن يتحوّل من ذكرى إلى مشروعٍ ومنصّةٍ إستراتيجية تتجدّدُ كلَّ عام.وحين يحدثُ ذلك، سيغدو الثالثُ من تشرين الأوّل نافذةً يطلُّ منها العراقُ على العالم، ومرآةً يرى فيها أبناؤُه مستقبلَهم المشترك وفرحتَهم الجامعة.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2025 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن