نصير العلي
يشهد العراق في الآونة الأخيرة تحولًا لافتًا في أداء السياسة النقدية، انعكس بشكل مباشر على استقرار أسعار صرف الدولار مقابل الدينار، وسط إشادة من جهات رسمية، وتحليل متباين من قبل مراقبين اقتصاديين.
وبين من يرى في هذا الانخفاض ثمرةً لجهود البنك المركزي والحكومة، ومن يعتبره مؤقتًا ناجمًا عن سلوكيات المضاربين، تبقى الأسئلة الجوهرية قائمة: هل الاستقرار الحالي مستدام؟ وما مستقبل الدينار في ظل تحديات داخلية وخارجية؟
نجاح مرحلي.. لا يُمكن إنكارهصرّح مستشار رئيس الوزراء للشؤون المالية بأن الإجراءات التي تبنّاها البنك المركزي، بالتنسيق مع الحكومة، ساهمت في تقليص الفجوة بين السعر الرسمي والموازي.
تمثّلت أبرز تلك الإجراءات في تحويل آلية منح الدولار للمستوردين من خلال منصة إلكترونية مرتبطة بمصارف عراقية تتعامل مع بنوك مراسلة دولية، مما قلل من الاعتماد على السوق غير الرسمي، وسهّل توفير العملة الأجنبية وفق آليات أكثر شفافية.
كما أسهمت أدوات إضافية، كتشجيع استخدام البطاقات الإلكترونية لمنح المواطنين سقفًا شهريًا قدره 3,000 دولار، في تخفيف الضغط على السوق الموازي، في حين ساعد ارتفاع ثقة السوق باستقرار السعر الرسمي على دفع بعض المدخرين والمضاربين نحو الذهب أو السندات الحكومية بدلًا من الاحتفاظ بالدولار.
قراءة مغايرة من المراقبينورغم المؤشرات الإيجابية، يرى بعض الاقتصاديين أن الاستقرار الحالي هش، ويعزى في جانب كبير منه إلى "تخوف المضاربين" من التذبذب الحاد في السوق، لا إلى إصلاحات هيكلية جذرية. كما أن فجوة سعر الصرف، التي لا تزال تتراوح بين 5% إلى 7%، تعكس استمرار الاعتماد على السوق الموازي في تلبية جزء مهم من الطلب على الدولار، خاصة في ظل التحديات الجمركية وضعف البنية المصرفية في بعض المناطق.
يضاف إلى ذلك عوامل خارجية تسهم بدورها في التأثير على سعر الصرف، من أبرزها تحسن سعر النفط، والتوترات الإقليمية، وتوجهات السياسة النقدية الأمريكية. وبالتالي، فإن جزءًا من الاستقرار الحالي قد لا يكون ناتجًا عن أدوات محلية بحتة، بل عن توازن ظرفي هش.
ما المتوقع في المرحلة المقبلة؟تشير التوقعات إلى استمرار الاستقرار النسبي في أسعار الصرف خلال الأشهر القليلة المقبلة، بشرط استمرار ضخ العملة الأجنبية عبر القنوات الرسمية، وبقاء حجم الطلب تحت السيطرة. إلا أن هذا الاستقرار مرهون بجملة من العوامل، منها:
استمرار التعاون بين البنك المركزي والمصارف التجارية في توفير الدولار للمستوردين بشفافية.
كفاءة الرقابة على المنافذ الحدودية لمنع تهريب العملة.
الحفاظ على وتيرة النمو غير النفطي لتقليل الاعتماد على الدولار في تغطية المستوردات.
التفاعل الذكي مع المتغيرات الإقليمية والعالمية المؤثرة على حركة الدولار.
الحاجة إلى إصلاحات أعمقالاستقرار الحقيقي والمستدام لسعر الصرف يتطلب إصلاحات تتجاوز الإجراءات النقدية الظرفية.
فبدون تطوير شامل للمنظومة المصرفية، وضبط العمليات الجمركية، وتقوية البنية التحتية للاقتصاد غير النفطي، ستبقى السياسة النقدية محاصرة بين ضغوط السوق ونقاط ضعف هيكلية.
ينبغي أيضًا تبني سياسات مالية متكاملة تدعم الاستقرار النقدي، مثل ضبط الإنفاق العام، وتحفيز الادخار المحلي، وتوسيع قاعدة الإنتاج الوطني. كما أن إدارة الاحتياطيات الأجنبية بحاجة إلى رؤية أكثر مرونة تتيح مواجهة التقلبات المفاجئة دون تعريض السوق لهزات عنيفة.
لقد سجلت السياسة النقدية في العراق مؤشرات نجاح مرحلية تستحق التقدير، لكن الحفاظ على هذا المسار يتطلب معالجات أعمق، وتنسيقًا أعلى بين السياسة المالية والنقدية، مع استعداد دائم لمواجهة أي صدمات خارجية محتملة.
السؤال الذي يفرض نفسه اليوم ليس ما إذا كان سعر الصرف مستقرًا الآن، بل ما إذا كنا نمتلك الأدوات الكافية للحفاظ على هذا الاستقرار غدًا.