د.عقيل الخزعلي
رئيس مجلس التنميّة العراقيّ
يوم أمس، وفي واحدةٍ من الندوات المُميّزة لمُلتقى ["بحر العلوم"] للحوار ، انعقدت حواريةُ فِكرٍ حاولَتْ أن تُبقي جذوة التفكير مشتعلة وسط رماد الخطابات المنمّقة، حمل العنوان نبرةً مباشرة:[ “رجل الدولة: تطوّر المفهوم وجدليّات الأداء السياسي”].
كان المتحدّث، العالِمُ العراقيّ الدكتور محمد القريشي، يطرح الأفكار بنَفَسٍ أكاديميّ محترف، أمام نخبة من الحضور.
كنتُ عازمًا على أن أُدلي بمداخلة تضع إصبعًا على الجرح، لولا اتصال طارئ قطع عليّ لحظة كنت أنتظرها منذ زمن، ليسَ لأنني أهوى الحديث، انما لأن ما أراه يستحق أن يُقال، وبلا مواربة.
لقد تعبنا من تكرار السؤال: {ما الفرق بين السياسي ورجل الدولة؟} وكأن الأمر معضلة لغوية. [الفارق واضح، بل فاضح].
ف(السياسي) = ابن السوق العام، (يعرف أين يقف ليُصفّق له الجمهور)، (ويبرع في تبديل الأقنعة كما تُبدَّل الولاءات). (يُجيد هندسة الوقائع) لصالحه وليسَ لصالح الدولة، (ويُتقن المساومة حتى على القيم) إن ضمنت له موقع صدارة متجدد، أو مقعدًا إضافيًا في طاولةٍ لا أحد يعرف على وجه الدقة من نصّبها.
في المقابل، يأتي (رجل الدولة)، والذي لا يحتاج إلى تعريفٍ طويل. إنّه ببساطة = من (لا يُقايض على الثوابت)، (ولا يفاوض على فكرة الدولة ذاتها)، (ولا يتسلّل إلى السلطة)، لكنه يتقدّم نحوها حين تصبح مسؤولية ثقيلة لا مغنمًا شخصيًا.
(السياسي) حين يسمع الأزمة= {يرى فيها فرصته الذهبية ليعلو الصوت أكثر، وليحشر خصومه في الزاوية، ويخرج هو بمكسبٍ تفاوضيٍّ جديد}. أما (رجل الدولة)، فحين يرى الأزمة= {يُفتّش في جذورها، في الخلل العميق الذي ساهم فيه الصمت، والفساد، والمحاباة، والانتهازية، ثم يُقدّم على المكاشفة، بعيداً عن المناورات الفارغة، لا يتراجع حين تُطلب الجرأة، ولا يُلوّن موقفه بالدّجل حين يعجز عن اتخاذ قرار}.
يعيشُ (السياسيّ) على استطلاعات الرأي، أما (رجل الدولة) فأنه يشتغل على ما بعد الرأي العام.
يلوّح (السياسي)= [بشعبيةٍ زائفة ليبتز بها خصومه]، أما (رجل الدولة)= [فيُراكم ثقة بطيئة، صلبة، لا تنهار حين تتراجع المؤشرات]. (السياسيّ)= [يعبد اللحظة]، و(رجل الدولة)= [يستثمر في الزمن]. (الأول )= [يتغذّى على الانقسام ويعتاش عليه]، أما (الثاني)= [فيكلفه الانقسام نومه وهدوءه لأنه يعرف أن الانقسام ليس رقمًا في الاستطلاعات، بيدَ انه شقّ في جدار الدولة].
ما نراه اليوم في كثير من ساحات القرار في أغلب دولنا الناميّة هو عجزٌ إداريٌّ، يردفَهُ شحٌّ فادحٌ لرجال الدولة، فأكثر القرارات لا تُتخذ وفق منطق [السيادة والعدالة والازدهار والمستقبل]، لكنها تُذبَح بمنطق [السوق، التوازنات، المصالح العائلية أو الحزبية], وتتحوّل المؤسسات إلى [أدوات تصفية واقصاء أو أدوات إرضاء ومجاملة وشراء ذمم]، وليسَ بكونها [أدوات بناء وخدمة واستدامة]، اما المعاييرُ فانها تُصاغ على مقاس [الولاء والفئوية والمصلحيّة الضيّقة ، بعيداً عن شروط الكفاءة والاستقامة والانتاجية والصالح العام].
وكلّ هذا لا يُعبِّرُ عن نتاجِ خللٍ عابر، لأنه نتيجة طبيعية حين يتصدّر المشهد من تعلّم فنون الاصطفاف وليسَ فنون الحكم.
يُقصى (رجل الدولة) غالبًا، ليسَ باعتباره فاشلاً، انما لأنه <مزعج>، لأن حضوره <يُحرج>، <يُربِك>، <يُهدّد> بنزع الأقنعة عن الوجوه التي اعتادت أن (تتبادل السلطة كأنها لعبة).
يحتاج (السياسي) من يصفّق له، (ورجل الدولة) لا يحتاج سوى مساحة ليعمل فيها، وإن قوبل بالصمت أو بالجحود.
[المفارقةُ العُظمى] أن الشعوب لا تتقدّم بكثرة السياسيين، لكنها حَتماً تتأخر <بندرة رجال الدولة>. (السياسة تُسيّر الأمور)، لكنّ (الدولة تُبنى). ومن لا يُحسن بناء الدولة، عليه أن لا يقترب من هندستها. لذا فأن (رجل الدولة) يؤتمَنُ على المصير، بذلك لا يُقاس بعدد ظهوره الإعلامي، انما بعدد الأزمات التي منعها من الانفجار، وعدد المرات التي فضّل فيها أن يخسر موقِعًا كي لا تخسر الدولة وجهها وغرضها ومآلَها.
في لحظات الصدق الصارم، نجد ان التاريخ لا يسأل عن عدد المقاعد، ولا عن عدد الزيارات، ولا عن عدد المصافحات أمام الكاميرات. يسأل: [من أنقذ الفكرة حين كادت أن تسقط؟ من خاف على الدولة أكثر من خوفه على نفسه؟ من وقف في المكان الصحيح حين كان الثمن باهظًا؟]!.
ذلك هو رجل الدولة. وما دونه سَقَطُ مَتاعٍ فائض !.
فيا دول العالَم النامي كفاكُم اقصاء وقتلاً في رجال دولكم فان ذلك "جريمةٌ حضاريّةٌ" ستمتد لكل العصور اللاحقة !.