منتصر صباح الحسناوي
حدث مراراً، معي ومع أصدقاء مقربين ومع كثيرين ممّن حولنا، وأفترض أيضاً أنّ عدداً كبيراً ممن يقرأون هذه الكلمات قد تعرّضوا فجأة للإلغاء أو سيتعرضون له!انها مسألة وقت لا أكثر ..
منشور واحد أو تصريح قديم أو حتى زلة لسان أو صورة مفبركة كفيلة بإشعال الحطب تحت أقدامهم، ليس فينا من هو بمنأى عن هذه الثقافة التي تتخفّى بلباس النقد والتقويم بينما تتجاوز حقيقتها ذلك بكثير، فجميعنا معرضون لها بغضّ النظر عن نوايانا أو مواقفنا أو حتى توازننا النفسي.
المفارقة التي لا تزال تثير الدهشة على الرغم من تكرارها، هي اندفاع العقل الجمعي في كل مرة وكأنّه كان ينتظر لحظة التفريغ. ما أن يتعرّض أحد للإلغاء حتى ينطلق السيل الجارف من التفاعل بعضه بوعي وأكثره دون أدنى اطّلاع على أصل الموضوع أو تفاصيله. وكأن هناك كمّاً هائلاً من الكبت في دواخل الجموع يبحث عن متنفس، عن ذريعة لإطلاق ما لم يُسمَح لهم بالتعبير عنه في حياته اليومية. الإلغاء هنا لا يكون رداً على خطأ بقدر ما يكون انفعالاً جماعياً فيه رغبة خفية بالقصاص، دون التمعن بالفعل ذاته وانما من كل ما يمثّله الآخر.
من هنا تبدأ الظاهرة: حين يُختزل الإنسان في لحظة وتُختصر تجربته في عبارة ويُلغى تاريخه من أجل موقف فاعلم أن ما يجري لم يعد نقداً، الأمر أشبه بشهوة اجتماعية تُمارَس تحت مسمّى العدل.
في مجتمعات تَنوء تحت طبقات من التقييد والقمع اللاشعوري تتراكم مشاعر الإحباط، الغضب، الغيرة، واللاجدوى الساكنة في الأعماق حتى تتهيأ لحظة تُفتح فيها البوابة.
وما أسهلها اليوم حين لا يحتاج الأمر إلى أكثر من شاشة وهاتف واتصال عاطفي بالجمهور، تبدأ موجة الإلغاء كما يبدأ أي حريق: شرارة صغيرة تشعل الحقل بأكمله. والعجيب أن كثير من الضحايا "المخطئين او غيّر المخطئين"، لا يكونون مسيئين للمجتمع وانما أحياناً من الذين خالفوا المزاج العام أو مسّوا صورة نمطية أو عبّروا عن فكرة جديدة.
الإلغاء، في جوهره لا ينبع دائماً من رغبة في الإصلاح بقدر الحاجة الداخلية إلى السيطرة والانتصار أو الظهور المجرد ، وكأنّ بعضهم حين يشارك في هذه الحملات، يطلب لنفسه مكاناً في العلياء أو يقتصّ من خصومة داخلية أعمق بكثير من الشخص المستهدف، ولذلك نراه لا يطلب توضيحاً ولا يستمع لتفسير ولا يعترف بسياق، يكفيه أن يُسكب البنزين على الكلمة ليحترق ما تبقى من الصورة.
إن المنصّات الرقمية سهّلت هذا التحوّل فأصبح الإلغاء ترنداً يومياً فيه متعة المشاركة ولذة التهشيم وإحساس مؤقت بالقوة. باتت "السمعة" سلعة وأصبح هدمها لا يكلّف إلا ضغط زر أو تعليقاً مشحوناً أو اقتباساً من خارج السياق ليكون "ترند".
وما يزيد خطورة هذا النمط هو أن المشاركين فيه يظنون أنهم يفعلون الصواب، فالعقل الجمعي حين يشتد صراخه يحجب التفكير الفردي ويزرع شعوراً زائفاً بالأخلاقية، فيتحول الغضب الشخصي إلى عدالة جماعية ويتحول الخطأ الصغير إلى جريمة لا تُغتفر ويتحوّل الإنسان إلى كائن بلا ماضٍ وبلا فرصة للرجوع.وكأننا عجزنا عن تحقيق ذاتنا بطرقٍ ناضجة لنبحث عن ضحية نُسقِط عليها عقدنا ونشعر بعدها أننا أفضل وأننا أنقى ولو إلى حين.وبهذا السياق سيصعب علينا انتاج بيئة ناضجة تحترم التنوع وتحتمل الزلل.
"كل ما نحتاجه لحظة صمت وقليل من التفكير قبل الهجوم"
ويبقى السؤال مفتوحاً أمام المختصين (علماء النفس والاجتماع والإعلام) :ما الذي يجعل الإلغاء يتحوّل من أداة للمساءلة إلى وسيلة للتنفيس؟وهل نحن فعلاً نُلغي من أجل حماية المجتمع أم لنُرضي ما لم نُشفَ منه بعد في أنفسنا.