الإلغاء في عصرنا يطلُّ كلَّ يوم بوجهٍ أوضح، إذ يتحوّل المؤثرون سريعاً إلى رموز تُصنع حولهم هالاتٌ ضخمة، تمنحهم مكانةً استثنائية، لكنّها في الوقت نفسه تجعلهم أكثرَ عرضة للسقوط. ولعلَّ قصة الطبيب العراقي محمد طاهر مثالٌ حيٌّ على ذلك.
هذا الطبيب برز في لحظةٍ إنسانيةٍ فارقة بمساهمته في علاج عشرات المصابيّن في غزة، فارتبط بوجدانٍ عراقيٍّ واسع، تابع المأساة الفلسطينية وشعر بالفخر أنّ واحداً من أبنائه كان في قلبها يقدّم ما يستطيع، توالت بعدها مشاهد الاحتفاء: استقبله مسؤولون رفيعو المستوى، وأشاد به رجال دين، وخصّه المرجع الأعلى السيّد السيستاني بلقاء، فصار في نظر الجمهور رمزاً للإنسانيّة العراقيّة.
غير أنّ هذه الهالة المضيئة ما لبثت أن انقلبت عليه، بدأت بتحويل تصريحاته إلى مادةٍ مثيرةٍ للجدل، وظهرت أصوات تقلّل من شأن ما قامَ به، وصولاً الى حملاتُ تشكيك في شهادته، هنا برز الوجه الآخر من الظاهرة: إنَّ من يعلو نجمه يصبح هدفاً سهلاً للإلغاء، أسبابه متعددة؛ منها ما هو سيّاسي، ومنها ما هو مذهبي، ومنها ما يرتبط بغيرةٍ دفينةٍ أو رغبةٍ في كسر الرّمز الذي بدا أكبر من حجمه الطبيعي.
العقل الجمعي نفسه الذي رفعه عالياً، شارك في النيّل منه، فالمجتمع يميل إلى صناعة الأيقونات بسرعة، لكنَّه في اللحظة التاليّة يختبرها بقسوةٍ مفرطة، كأنّما يريد أن يؤكد لنفسه أنَّ أحداً لا يستحق الكمال، المؤثر في هذه الحالة لا يُعامَل كفرد، بل كظاهرةٍ تختزن كلَّ تناقضات الواقع، ولذلك يصبح سقوطه مادةً سهلة للتداول.
هذه المفارقة تضعنا أمام خلاصةٍ صعبة: الإلغاء يستهدف الأقوياء في حضورهم الاجتماعي، كلما كان الإنجاز أكبر، صار النقد أشد، وكلما اتّسعت الهالة، تضاعفت احتمالات انكسارها، ما حدثَ مع محمد طاهر يؤكّد أنَّ المشكلة ليست في جهده الإنساني بقدر ما هي في الكيفيّة التي استقبل بها المجتمع ذلك الجهد،لقد تحوّل من طبيبٍ إلى رمز، ومن رمزٍ إلى هدف للإلغاء، وهنا تكمن المعضلة.
الدّرس الذي ينبغي التوقف عنده أنّ علاقتنا بالمؤثرين بحاجةٍ إلى مراجعة، فبدلاً من تضخيم الهالة حتى تصبح عبئاً، ثم الانقضاض عليها حتى تنهار، نحن بحاجة إلى وعيٍّ أكثر نضجاً يقدّر الإنجاز بقدر ما هو فعل واقعي، لا أكثر ولا أقل. عندها فقط يمكن حماية الرموز من هذا المسار المزدوج الذي يبدأ بالتمجيد وينتهي بالإلغاء.
ويبقى السؤال: هل سنظلُّ نصنع أيقوناتٍ لنفاخر بها لحظة، ثمّ نتركها فريسةً للانهيار تحت وطأة الاتهامات والشكوك؟ أم سنعيد التفكير في معنى التأثير ذاته، بما يجعله محمياً من موجات الانبهار العابرة والإلغاء القاسي؟ لعلَّ ما نحتاجه اليوم ليس صناعة هالاتٍ جديدة بقدر ما نحتاج صناعةَ وعيٍّ جديد، وعيٍ يضع الإنسان قبل الرمز، والإنجاز قبل الأسطورة، والاساطير كثيرة.