تتنوع العلاقات بين أفراد المجتمع منها ما تُبنى على صلات القربى والموّدة والتجربة و أخرى تبدو في ظاهرها دافئة وصادقة لكنها مرهونةٌ بمصلحة أو مجاملة أو عمل مؤقت … وقد تكون من جانبٍ واحدٍ كالأُلفة تجاه المشاهير (قادة، رياضيين، فنانين… إلخ).
هذه الحالة تُعرف بـ”الأُلفة الزائفة”، التي تتحول أحياناً إلى أرضية خصبة لثقافة الإلغاء.
إنّ الربط بين هذين المفهومين يفتح لنا باباً لفهم طبيعة التقلّب في المواقف، وسرعة الانتقال من الانبهار إلى التبرؤ، ومن التصفيق إلى الإدانة.
الألفة الزائفة هي شعورٌ مؤقتٌ بالانسجام والانتماء يتأسّس على ظروفٍ عابرة بتكرار اللقاء، بعيداً عن الروابط الحقيقية من الثقة أو التجارب المشتركة، لذا تبدو العلاقة من الخارج متينة، لكنها تنهار عند أول امتحان، ويصفُ علماءُ النفس هذه الحالة أحياناً بما يُعرف بـ العلاقات الطفيلية (Parasocial Relationships)، إذ تمنح شعوراً بالانتماء من دون أن تقوم على تجربةٍ مشتركة حقيقية.
فهي أشبه بابتسامة عابرة في شارع مزدحم؛ تُشعر المرء بالراحة لوهلة، وقد تمنحه وهماً بالتقارب.
ولا غرابة في أن ذلك الانجذاب السريع لشخص أو فكرة، تتبعه قطيعة أسرع عند أول منعطف أو اختلاف.
وكأنّ المجتمع يعيش في دائرة مفرغة من التبني والتخلّي. في الساحة الثقافية مثلاً، نرى كاتباً يُحتفى به بشكل مبالغ فيه، ثم تُفتح عليه أبواب النقد القاسي عند أول موقف لا ينسجم مع توقعات جمهوره، هذه الدينامية انعكاس لسطّحية الألفة التي سبقته، وهو الحال نفسه مع لاعبي كرة القدم حين يتحوّل الاحتفاء إلى هجوم شرس في غضون أيام.وسائل التواصل الاجتماعي ساهمت في خلق وهمٍ أكبر بالعلاقات المتينة، لكنها تتلاشى مع تغيّر الخوارزميات أو تبدل المزاج الجمعي، نفس الجماعات التي تحتفي بشخصية ما قد تتحول إلى محكمة علنية تجرّدها من قيمتها.
هذه التحولات السريعة تعكس هشاشة الروابط، وتجعل من الألفة الزائفة مدخلاً مباشراً لثقافة الإلغاء.
في العراق، حيث تتداخل السياسة بالمجتمع بشكلٍ ملفت، تظهر الألفة الزائفة في صورة “جماعات مناصرة” تنشأ بسرعةٍ حول شخصيةٍ عامة أو مشروع سياسي، فينهال الدعم والمديح، حتى يخال المرء أنّ هذه الجماعة هي حائط صلب، غير أنّ التجربة تثبت أنّها تتفكك عند أول إخفاق أو تعثر أو بدونه حتى، فقد يكون منشورٌ مزيّفٌ كفيلاً بتحويل المناصرين أنفسهم أو الداعمين إلى قوةٍ رافضةٍ وناقدة، وربما يكونون أكثرَ قسوة من الخصوم الحقيقيين.
ولعلّ تاريخ العراق السياسي يزخر بأمثلة على ذلك.هذه السلوكيات تجعل من الألفة الزائفة وقوداً لثقافة الإلغاء التي تمارسها الجماهير بتلقائية مع وجود محركات لها (وبالتأكيد لا تعمل بتلقائية) .
ولأن شعور الألفة وليدُ الحاجة إلى الانتماء والشعور بالقبول والاستمرارية في مجتمع يعاني بنسبٍ مختلفةٍ من انعدام الثقة وقلق الهوية بسبب عدم الاستقرار السياسي والأحداث المتوالية، فإنه غالباً ما يفتقر إلى العمق اللازم ليتحول إلى صلةٍ حقيقية، لذلك يسهل أن يتبخر، وحينها يترك مكانه فراغاً يُملأ بالإلغاء.
تجاوز هذه الظاهرة لا يمكن ان يكون بمدةٍ قصيرة ، بل يحتاجُ تصحيحاً للاخطاء واستقرارا يرافقه بناءُ روابط قائمة على الثقة والصراحة، وتعزيز الحوار والقدرة على التفريق بين الخطأ والفشل، فهي القادرة على إضعاف ثقافة الإلغاء. وما لم نؤسس لألفة حقيقية تنمو على أرضية متينة من الحوار والاعتراف بالاختلاف وتوحيد الاهداف، فإننا سنبقى نتأرجح بين مبالغات الانبهار وسرعة القطيعة، داخل دائرة مفرغة تُعيد إنتاج نفسها كل يوم.