الدكتور حيدر البرزنجي
النقاش حول دور الانتخابات في تشكيل الدولة العراقية يتكرر مع كل دورة انتخابية، وكأننا أمام سؤال قديم يتجدد باستمرار:إذا كانت الحكومات تُصنع عبر التفاهمات بعد إعلان النتائج، فهل تفقد الانتخابات معناها ويضيع معها “صوت الدولة”؟
الحقيقة أن هذا السؤال، وإن بدا منطقياً للوهلة الأولى، يغفل عن جوهر البنية السياسية والاجتماعية للعراق. فالعراق ليس دولة أحادية البنية السياسية أو الثقافية أو الاجتماعية، بل هو بلد المكوّنات، حيث تتجاور الهويات وتتداخل المصالح وتتعدد المرجعيات الاجتماعية. وفي مثل هذه البُنى، لا توجد أغلبية مطلقة تستطيع تشكيل الحكومة وحدها، لا بحكم العدد الانتخابي ولا بحكم الواقع الاجتماعي.
لذلك فإن الانتخابات ليست غاية بحد ذاتها، بل هي الأساس الذي تُبنى عليه الشرعية.أما التفاهمات السياسية فهي الامتداد الطبيعي لنتائج الانتخابات، وليست نقيضاً لها.
فالانتخابات تمنح حق التمثيل،والتفاهمات تمنح إمكانية الحكم.وبدون أحدهما تفقد الدولة توازنها:فلا صندوق بلا توافق قادر على إنتاج سلطة مستقرة،ولا توافق بلا صندوق قادر على إنتاج شرعية محترمة.
وفي هذا السياق، يصبح وصف الانتخابات بأنها “طقس سياسي لا يُنتج تغييراً” حكماً متعجلًا.فالتغيير لا يظهر في شكل الحكومات وحده، بل في طريقة إدارة الدولة، في طبيعة القرارات، في توزيع السلطة، وفي مدى انتقال المجتمع من الولاء للجهة إلى الولاء للدولة.
صحيح أن تشكيل الحكومات العراقية يستغرق وقتاً طويلاً ويقتضي مشاورات معقدة، لكن هذا ليس دليلاً على غياب الدولة، بل هو جزء من مسار تأسيس دولة تتعلم إدارة التعدد بدل إنكاره.
فالدول التي تفرض فيها الأغلبية حكمها بلا توازنات، سرعان ما تنزلق إلى الصراع الأهلي.
أما العراق، فقد اختار طريقاً أصعب: إدارة التعدد لا كعبء، بل كواقع يُبنى على أساسه الاستقرار.
كما أن العالم لا ينظر إلى العراق بعيون نتائج الانتخابات وحدها، بل ينظر إلى قدرته على ترجمة هذه النتائج إلى قرار مستقل في زمن تعاد فيه صياغة خرائط القوة والطاقة والتحالفات في المنطقة.والسؤال الحقيقي الذي يُختبر فيه العراق اليوم ليس:من يفوز؟بل: كيف يُحكم؟
الديمقراطية ليست صندوقاً فقط،بل إرادة تُترجم إلى سياسات، وسياسات تتحول إلى هوية دولة.
والدولة لا تتكلم بصوتها إلا حين تمتلك:شرعية سياسية من الصندوق،وشرعية واقعية من التوافق،وشرعية سيادية من القرار المستقل.
العراق لا يحتاج فائزاً جديداً بقدر ما يحتاج دولة تعرف كيف تقرر باسمها، لا باسم الآخرين.وهذه الدولة لن تُصنع دون انتخابات تُحدد من يملك الحق في التمثيل،وتفاهمات تُحدد من يملك القدرة على الحكم،ومؤسسات تُحدد من يملك حق القرار.
الخاتمة
إن صوت الدولة لا يُولد من لحظة إعلان النتائج،بل من اللحظة التي يقرر فيها من وصل عبر الصندوق أن يحكم بما يمليه ضمير الوطن لا رغبات الخارج.وحين يتحول التمثيل إلى إرادة، والإرادة إلى قرار، والقرار إلى سيادة،عندها فقط نستطيع القول:
إن الدولة قد تكلمت.وتكلمت بصوتها هي.لا بصوت أحدٍ آخر.