06 Oct
06Oct

د.مثنى السراي – اكاديمية العراق للطاقة

بدءت البشرية متابعة نواتج احتراق المصانع والمركبات ومحطات الطاقة الكهربائية بشكل كبير في منتصف القرن العرشين خاصة بعد زيادة ظاهرة الاحتباس الحراري (ارتفاع درجة حرارة الارض) وبدء انصهار قطع جليدية ضخمة في القطب الشمالي وبالتالي ظهور تاثيرها على ارتفاعات مستويات مياه البحار والمحيطات و بذلك تسببت في تطور تاثيرات العواصف المدارية وسوء الاحوال الجوية.

 وهنا بدءت الدول بدراسة حلول مناسبة لايقاف جذور هذه المشكلة والتي تودي الى التاثير على المجتمع البشري بشكل مباشر من خلال الطقس والامراض الناتجة من الغازات والشوائب في الاجواء وهذه الخطوة تمت من خلال دراسة نواتج الفعاليات الحياتية ومنها نواتج الاحتراق في محركات السيارات والطائرات والقطارات والغازات والابخرة المتصاعدة من مداخن المصانع ومحطات الطاقة وغيرها. 

هذه النواتج تتركب في اغلبها من أول أكسيد الكربون (CO) وأكسيدات النيتروجين (NOX) وثاني أكسيد الكربون (CO2) وثاني أكسيد الكبريت (SO2) وجميعها تعد من أهم ملوثات الهواء بالاضافة الى كونها من الغازات الدفيئة (ويضاف الى الغازات السابقة غاز الميثان (CH4) و اكسيد النيتروز (N2O) و مركبات الكربون الهيدروفلورية (HFCs)) التي تمتص الأشعة تحت الحمراء وتُشعّ الحرارة في جميع الاتجاهات مما قلل من تسرب الحرارة إلى الفضاء وحبسها في الغلاف الجوي السفلي. ومايهمنا في هذه القراءة هي مقدار البصمة الكربونية الناتجة من نشاط الطاقة في العراق. فالعراق من الدول الغنية بموردي النفط والغاز الطبيعي ويحتل المراتب الاولى في التصنيفات من حيث كميات النفط المخزون او المنتج او المصدر لدى المقارنة مع دول العالم.

 حيث يحتل المركز الخامس من حيث الخزين المثبت للنفط الخام بحوالي 140 مليار برميل والمركز الخامس من حيث انتاج النفط الخام بمعدل  4.3 مليون برميل/اليوم حسب احصائية 2023. ومن الشائع بين الباحثين في مجال التاريخ بان العراقيين كانوا على معرفة بالنفط الاسود القريب من سطح الارض وكان يستخدم في الابنية والشوارع ومن دون استعماله كمصدر للطاقة ورغم ذلك الا ان العراق استخدام الطاقة الكهربائية باعوام قبل الاستفادة الكاملة من النفط. فالعراقيين لم يتعرفوا على الصناعة النفطية بمفاهيمها الحديثة الا من خلال مشروع حقل نفط كركوك سنة 1927 بينما دخلت الكهرباء العراق بعد الاحتلال البريطاني سنة 1917 حين تم  انتاج الكهرباء لاول مرة بعد نصب أول مولد ديزل في بناية " خان دلة " في شارع الرشيد وتم جلبه من قبل الجيش البريطاني.

 وبعدها تم نصب مولدات كهربائية في مناطق مختلفة من مدينة بغداد منها منطقة السراي لانارة أبنية السراي والقشلة وفي شريعة المجيدية (مدينة الطب حاليا) لإنارة المستشفيات الموجودة في باب المعظم وفي منطقة كرادة مريم لانارة معسكر الهنيدي (معسكر الرشيد لاحقا ً). 

وعليه عرف العراقيون روائح نواتج الاحتراق (ومنها البصمة الكربونية) المتصاعدة من هذه الديزلات (والتي كان وقودها يجلب من الخارج) وتاثيراتها السلبية مبكرا.

 فالبصمة الكربونية (Carbon Footprint) كما هي معرفة لدى المتخصصين مؤشر يقيس معدلات انبعاث غاز ثاني اكسيد الكربون على مختلف المستويات مثل الافراد او المصانع او المنتجات او الدول ويعبر عنه بوحدة الطن في السنة (Ton/Year). وتنتج هذه البصمة بشكل كبير من حرق الوقود الاحفوري عاكسة بذلك مدى استهلاك البشرية للطاقة في الانشطة اليومية مثل النقل وانتاج الطاقة الكهربائية ومن الشكل رقم (1) يتضح بان صناعة الطاقة هي من اكثر القطاعات انتاجا للبصمة الكربونية بسبب كميات الوقود الاحفوري من فحم و غاز طبيعي و نفط خام وثقيل المحروقة لانتاج الطاقة الكهربائية. وبلغت كمية غاز ثاني اكسيد الكربون المنتج بسبب الفعاليات البشرية لسنة 2022 حوالي 38.5 مليار طن متري بحيث تكون حصة الفرد على سطح الارض حوالي 4.8 طن من ثاني اكسيد الكربون. 

وقد بلغت حصة العراق من مجموع هذه الانبعاثات 193.8 مليون طن (نسبة 0.5 بالمئة) وبمعدل حصة الفرد 4.4 طن (عند تقديرعدد سكان العراق 44 مليون نسمة في سنة 2022).

 

الشكل رقم (1) انبعاثات غاز ثاني اكسيد الكربون حسب القطاع عالميا لسنة 2022 (موقع WorldoMeter)

وحسب دراسات استقصائية للامم المتحدة وموقع قاعدة بيانات الانبعاثات لأبحاث الغلاف الجوي العالمي (EDGAR) فان النشاطات التي شكلت مجمل هذه الانبعاثات في العراق تعود الى مختلف الانشطة البشرية ولكن البصمة الكربونية الاعلى والواضحة في الشكل رقم (2) هي لصناعة الطاقة واستغلال الوقود والتي ازدادت بشكل جلي منذ تسعينيات القرن المنصرم. وحسب بيانات البنك المركزي العراقي خلال سنة 2023 انتج العراق مامقداره 1502.9 مليون برميل استهلك مايقرب من 300 مليون برميل داخليا لتغطية متطلبات صناعة الطاقة واستعمالات الوقود وغيرها وهذه الارقام تعكس الحجم الكبير من الغازات المنبعثة من احتراق هذه الكميات من الوقود داخليا.


وبالتمعن في قطاع الكهرباء, انتج العراق من الطاقة الكهربائية مامقداره 157 مليون ميغاواط.ساعة في سنة 2023 منها 152 مليون ميغاواط.ساعة تم انتاجها عبر حرق النفط او مشتقاته اي ان نسبة 97 بالمئة من انتاج العراق الكلي للكهرباء قادمة من حرق الوقود الاحفوري. 

وهذا الرقم يمكن ترجمته عبر لغة النفط والغاز الطبيعي بالارقام التالي والصادرة من دائرة التخطيط والدراسات في وزارة الكهرباء: استهلاك 19.5 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي, 10 مليون متر مكعب من النفط الخام, 6.2 مليون متر مكعب من الوقود الثقيل (HFO) و 268 الف متر مكعب من زيت الغاز.

 وعند مقارنة هذه الارقام مع ماينتجه كل نوع من الوقود من ثاني اكسيد الكربون (450 غرام من الكربون لكل كيلوواط.ساعة منتجة من النفط او مشتقاته و 800 غرام من ثاني اكسيد الكربون لكل كيلوواط.ساعة منتجة من الغاز الطبيعي حسب دراسة جامعة القادسية / كلية العلوم لسنة 2024) نجد بان كمية غاز ثاني اكسيد الكربون المنبعثة تبلغ حوالي 82 مليون طن وهو مايعادل 42 بالمئة من مجموع الانبعاثات نتيجة النشاطات البشرية المختلفة في العراق. 

عامل اخر لم يتم تلسيط الاضواء عليه ويمكن وضعه في خانة الانبعاثات الناتجة عن انتاج الطاقة الكهربائية الا وهو نواتج احتراق الوقود في المولدات الاهلية حيث ان العدد الهائل من المولدات الاهلية في الاحياء وبين الازقة العراقية تعمل بشكل يومي وعلى مدار الساعة لسدة العجز في الكهرباء (الا في اوقات انخفاض الاحمال في فصلي الربيع والخريف) على حقن كميات كبيرة من الغازات والملوثات البيئية مسرعة بذلك عملية الاحتباس الحراري محليا وناشرة طبقة خفيفة من الغبار الاسود على حوائط البيوت العراقية.

 ومن احصاء شامل قام به الجهاز المركزي للاحصاء التابع لوزارة التخطيط بلغ عدد المولدات الاهلية العاملة في العراق لسنة 2021 كمثال حوالي 48533 مولد كهرباء اهلي (يمكن اعتباره نفس الرقم للسنوات التالية) بقدرة انتاجية تصل الى 13 الف ميغاواط واذا تم فرض بان نسبة التوليد الفعلي من هذه المولدات هي 75 بالمئة طيلة 12 ساعة يوميا خلال 30 يوم شهريا ولمدة عشرة اشهر سنويا (على اعتبار عدم تشغيل المولدات الاهلية خلال اوقات الاحمال الكهربائية الدنيا لاستمرارية الكهرباء المجهزة من وزارة الكهرباء) فستكون الطاقة الكهربائية المنتجة حوالي 39 مليون ميغاواط.ساعة. 

وهذا الانتاج يصدر تقريبا حوالي 31 مليون طن من انبعاثات غاز ثاني اكسيد الكربون بنسبة حوالي 16 بالمئة من مجموع الانبعاثات الوطنية العراقية. وبذلك يكون مجموع الانبعاثات الناتجة من انتاج الكهرباء تقريبا 113 مليون طن سنويا بنسبة تصل الى 58 بالمئة من مجموعة البصمة الكربونية العراقية. 

هذه الانبعاثات ومالها من تاثير في الصحة والطقس محليا ستكون محور المنافسة في القدرة على خفض مستوياتها في ساحة الطاقة العراقية كون العراق بدء من خلال تعاقد وزارتي النفط و الكهرباء مع الشركات العالمية لعملية نصب محطات شمسية لتعويض النقص الحاصل في تجهيز الطاقة الكهربائية وتقليل الاعتماد على الغاز المستورد والطاقة الكهربائية المستوردة وتقليل من استهلاك الوقود بنوعيه السائل والغاز الطبيعي وتوجيههما الى الاستخدامات الاخرى. 

هذه الخطط تجلب السرور للقراء والمستهلكين لكنها تواجه بحائط  الطلب الكبير على الطاقة محليا والذي ينمو بشكل مضطرب فمن المتوقع ان يصل انتاج العراق الى حوالي 85 الف ميغاواط بحلول 2030  لمواجهة الطلب الحمل المتوقع  ويتم ذلك من خلال مشاريع اضافة محطات توليد تقليدية واضافة محطات طاقة شمسية بنسبة 14 بالمئة تقريبا (12 الف ميغاواط) من مجموع الطاقة الكلية بحلول ذلك التاريخ. وهذا يعني ان حوالي 73 الف ميغاواط تقريبا ستكون عبر حرق الوقود الاحفوري مما يعني زيادة ايضا في الانبعاثات الكربونية عن المستوى الموجود حاليا بحوالي 160% (باعتبار القدرة المنتجة الحالية 28 الف ميغاواط).

 وبناءا على ذلك فان الحل في تقليل البصمة الكربونية الكهربائية من خلال نصب محطات طاقة شمسية نظيفة فقط لن يكون ذو جدوى وانما يجب البحث عن حلول تقنية اخرى. ومن هذه الحلول استخدام تقنية التوليد الكهربائية من خلال المحطات المركبة والتي شرعت بها وزارة الكهرباء منذ سنوات قليل والتي تعتمد على الاستفادة من نواتج الاحتراق في التوربينات الغازية البسيطة واعادة تدويرها لتسخين المياه وتحويلها الى بخار لتدوير توربين بخاري اخر وبالتالي يتم انتاج طاقة كهربائية اضافية بدون الحاجة الى حرق وقود. 

وبهذه التقنية يتم تقليل استهلاك الوقود المطلوب لانتاج واحد ميغاواط في ساعة من حرق 330 متر مكعب من الغاز الطبيعي مثلا في هذه المحطات الى حرق حوالي 180-190 متر مكعب وبالتالي تم تقليل الانبعاثات الصادر بنسبة الثلث تقريبا وبالتالي قلت نسبة الانبعاثات الى الثلث. 

واضافة الى ذلك تكون هذه المحطات في بعض الاحيان مجهزة بمنظومات مانعات الغازات والتي تعمل على تقليل أو إزالة الملوثات الضارة والغازات الساخنة من غازات المداخن الناتجة عن عملية الاحتراق قبل إطلاقها في الغلاف الجوي، مما يحسن من جودة الهواء ويساعد على الالتزام باللوائح البيئية. ومن الحلول الاخرى في ميدان انتاج الطاقة الكهربائية هو التوجه الى بناء محطات طاقة نووية والتي تعد من الحلول المستدامة كون هذه التقنية تنتج الكهرباء من خلال عملية الانشطار النووي دون إطلاق غازات دفيئة.


ومن ماتم استعراضه من الحلول يجب على الجهات المختصة في الدولة العراقية التحرك لايجاد طرق اخرى لتقليل تاثير هذه الانبعاث على البيئة وعلى الصحة البشرية. ومن هذه الطرق فرض غرامات او تقديم محفزات على اصحاب المولدات لحثهم على ايجاد وسائل تقلل الانبعاثات وزيادة كفاءة وحداتهم التوليدية مع الحفاظ على سعر تجهيز الكهرباء بشكل لا يضر المستهلكين ويتم ذلك من خلال فرق جوالة تابعة لوزارة البيئة والصحة ومجالس المحافظات لقياس نواتج الانبعاثات بواسطة طرق القياس الحديثة. 

و التقنية الاخرى المقترحة ايضا هي طريقة "احتجاز الكربون وتخزينه" (CCS) وبهذه التقنية يمكن التقاط كميات الغاز الناتجة عن حرق الوقود الأحفوري قبل إطلاقه في الغلاف الجوي واستثمار أطنان من غاز ثاني أكسيد الكربون المحتجز في عمليات الاستخلاص المعزز للنفط حيث يتم في هذه العملية ُحقن ثاني أكسيد الكربون في آبار النفط المستنفدة جزئياً، ويَدفع ضغطُ الغاز المحقون النفطَ المتبقي إلى السطح. وبهذه التقنية يمكن تقليل كميات كبيرة من ثاني اكسيد الكربون وخاصة الناتج قرب الحقول النفطية ويمكن تعميمه على منشات انتاج الطاقة الكهربائية وليس بحصرها في منشات انتاج النفط او صناعة الاسمنت فقط. وهذا الحل هو المتوقع شيوعه مستقبلا وحلا حتميا رغم تعقيده وتكلفته الا انه باحتجاز غاز ثاني اكسيد الكربون سنكون قد قللنا من تأثيرالانبعاثات مناخيا وبنسبة قد تصل الى 85 بالمئة. 

الحلول المقترحة وغيرها هي من صلب عمل جهات متخصصة في العراق منها وزارة البيئة ووزارة النفط ووزارة الكهرباء ووزارة الصحة بالاضافة الى الدور المهم لمجلس النواب ولجانه المختصة لان مستويات البصمة الكربونية في العراق مرتفعة وقابلة للزيادة مستقبلا وايجاد تشريعات مقننة ومتابعة لانتاج هذه الانبعاثات من خلال فرق عمل مشتركة نيابية و تنفيذية من الضروريات لتقليل الثاتير المناخي وخفض مستويات الامراض الناتجة من استنشاق الغازات الناتجة من حرق الوقود الاحفوري خاصة في انتاج الطاقة الكهربائية. 

وعلى العراق الاستفادة من الدعم الدولي في هذا المجال والحث على الاستفادة من تجارب الدول في مجال خفض الانبعاثات وفتح باب الاستثمارفي تقنيات حجز الكربون لتعظيم الفائدة من المعالجات السريعة لظاهرة الاحتباس الحراري محليا وزيادة كميات الهواء النظيف المنعش وزيادة موارد الخزينة العراقية. 

ورغم ماتم استعراضه فان الحل الاسلم وبيد كل مواطن بشرط توفر المكان هو بزراعة الاشجار والنباتات التي هي من اهم وسائل تلطيف الطقس وامتصاص غاز ثاني اكسيد الكربون وطرح الاوكسجين في الجو وخير مانختم به مقالنا هذا قول الرسول الامين (صلى الله عليه وآله): ما من مسلم يزرع زرعا أو يغرس غرسا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كانت له به صدقة.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2025 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن