بقلم ؛غنى شريف
كاتبة وإعلامية من لبنان .
رغم البُعد الجغرافي والتفاوت الظاهري في البنية الاجتماعية والسياسية، فإن العلاقات بين العراق ولبنان تظل قائمة على ترابطٍ صامت، لا يظهر دومًا في العناوين العريضة، لكنه حاضر في عمق الثقافة والسياسة والوجدان الشعبي لكلا الشعبين.
الجذور التاريخية والثقافيةبدأت ملامح هذا الترابط منذ بدايات القرن العشرين، عندما كان المثقفون العرب يتبادلون الأفكار عبر الصحف والكتب والجامعات. كثير من المفكرين اللبنانيين لعبوا دورًا في النهضة الأدبية العراقية، بينما تأثر الأدب اللبناني بصوت الشعر العراقي الجريء.
في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، كانت بيروت مركزًا ثقافيًا للمبدعين العراقيين الهاربين من الاضطرابات السياسية، بينما وجد اللبنانيون في بغداد دعمًا سياسيًا ومجالًا اقتصاديًا للعمل.
التبادل الأكاديمي والفنيشهدت العقود الأخيرة تزايدًا في التبادل الأكاديمي بين الجامعات العراقية واللبنانية، خصوصًا في الطب والهندسة والعلوم الإنسانية.
كما أن الفنون، من الموسيقى إلى المسرح، كانت دائمًا جسرًا للتواصل. الفنان العراقي كاظم الساهر، على سبيل المثال، حظي بجماهيرية كبيرة في لبنان، تمامًا كما استقبل العراقيون الفن اللبناني بحب وتقدير.
السياسة والمصالح المشتركة سياسيًا، حافظ العراق ولبنان على علاقات دبلوماسية هادئة، بعيدة عن التوترات، مع تبادل للمواقف الداعمة في المحافل الدولية.
ويظهر الترابط أيضًا في التعاون الاقتصادي، لا سيما في مجالات النفط والاستيراد والتصدير، حيث ساهم العراق في دعم لبنان خلال أزماته المتعددة، خصوصًا في ملف الطاقة.
تقدير الحكومة اللبنانية للمساعدات العراقية: قدمت الحكومة العراقية والشعب العراقي دعمًا ملموسًا للبنان في أوقات الأزمات، حيث أرسلت الحكومة العراقية مساعدات طبية وغذائية إلى لبنان، بما في ذلك شحنات من الأدوية والمستلزمات الطبية. كما أرسل متبرعون من محافظة كركوك أكثر من 50 شاحنة محملة بالمساعدات الإنسانية إلى لبنان.
في المقابل، أظهرت الحكومة اللبنانية تقديرًا لهذا الدعم، حيث أشاد وزير الصحة اللبناني بسرعة تواصل نظيره العراقي معه وتقديم المساعدات. كما استقبل رئيس الحكومة اللبنانية وفدًا من اللجنة العراقية المكلفة بالإشراف على تقديم المساعدات، وأثنى على الدعم العراقي المستمر للبنان. هذا التبادل يعكس عمق العلاقات بين الشعبين والحكومتين، ويؤكد على التضامن العربي في مواجهة التحديات.
الدور الشيعي العراقي في دعم شيعة لبنان: جزء من منظومة أوسع
رغم أن الطائفة الشيعية في العراق لعبت دورًا بارزًا في دعم شيعة لبنان، خصوصًا في الجوانب الدينية والإنسانية، إلا أنها لم تكن الوحيدة في هذا السياق.
فقد جاء الدعم من جهات عراقية متعددة — منها مرجعيات النجف، ومؤسسات دينية وخيرية، وشخصيات سياسية — وغالبًا ما عبّر عن علاقات تاريخية ومذهبية عميقة بين الجانبين.
ومع ذلك، فإن هذا الدعم لا يمكن فصله عن الإطار الأوسع للدعم الإقليمي والدولي الذي حظي به شيعة لبنان، وخصوصًا من إيران، التي كان لها تأثير مباشر وطويل الأمد على الساحة اللبنانية، خاصة من خلال دعم "حزب الله". كما تلقى الشيعة في لبنان دعمًا متنوعًا من جاليات شيعية عربية وخليجية، ومنظمات إغاثية وإسلامية في أوروبا وأمريكا. بهذا يتضح أن الدعم لم يكن حكرًا على الطائفة الشيعية العراقية، بل جاء ضمن شبكة معقدة من التحالفات والمصالح والمشتركات الدينية والسياسية.
هل لبنان مقصرا تجاه العراق في تقدير مواقفه؟رغم المواقف المشرفة التي اتخذها العراق حكومةً وشعبًا لدعم لبنان في أزماته، يطرح العديد من المتابعين تساؤلًا مشروعًا: هل بادل لبنان هذا الدعم بتقدير حقيقي وكافٍ؟
من الناحية الرسمية، عبّر بعض المسؤولين اللبنانيين عن امتنانهم، كما ظهر ذلك في تصريحات وزير الصحة ورئيس الحكومة، إلا أن هذا التقدير غالبًا ما كان محدودًا، ولم يلقَ الصدى الإعلامي أو السياسي الذي يوازي حجم ما قدمه العراق.
يذهب بعض المراقبين إلى أن لبنان لم يمنح العراق المكانة التي يستحقها في ذاكرته السياسية والإعلامية ، خصوصًا في ضوء استمرار العراق بتقديم الدعم في ملفات الطاقة والمساعدات الإنسانية. كما أن ضعف التغطية الإعلامية لهذه المبادرات العراقية جعل من الصعب على الرأي العام اللبناني أن يعي حجم هذا الدعم.
في المقابل، يمكن تبرير هذا القصور جزئيًا باضطراب الأوضاع السياسية في لبنان وانشغاله المستمر بالأزمات الداخلية، لكن ذلك لا يُنقص من أهمية مراجعة الموقف اللبناني وتفعيل دبلوماسية الامتنان كجزء من العلاقات الاستراتيجية بين البلدين.
هل الشكر اللبناني يعكس حجم الدعم العراقي؟رغم المواقف المشرفة التي اتخذها العراق في تقديم الدعم للبنان، سواء في أوقات الحروب أو الأزمات الاقتصادية، يتساءل العديد من المتابعين إذا كان **الشكر اللبناني** يعكس حجم هذا الدعم بشكل كافٍ. ففي كثير من الحالات، كان الشكر اللبناني يأتي على لسان المسؤولين، لكن لم يكن له الصدى الكافي في الإعلام أو بين الجماهير. من الممكن أن يكون السبب في ذلك **الانقسامات السياسية اللبنانية** والصراعات الطائفية التي تؤثر على التصريحات الرسمية، مما يجعل من الصعب تقديم صورة متكاملة عن هذا الدعم.
وعلى الرغم من هذه التحديات، إلا أن الكثير من اللبنانيين يدركون دور العراق في دعم بلدهم في أوقات صعبة، ويعربون عن شكرهم في المجالس العامة أو في المناقشات الخاصة. لكن "الجانب الرسمي " لا يزال بحاجة إلى بذل المزيد من الجهد في " تفعيل دبلوماسية الامتنان " بشكل أوسع وأكثر تأثيرًا.
ختامًاإن الترابط العراقي اللبناني ليس دائمًا صاخبًا أو معلنًا، لكنه "صامت في عمقه، صادق في جوهره " ، قائم على تاريخ مشترك، مشاعر أخوة، وتحديات متشابهة. وفي زمن التحولات الكبرى، قد يكون هذا الترابط الصامت هو البذرة التي تنمو نحو تعاون أوسع وأقوى في المستقبل.