بقلم: الدكتور محمد مرعي الخزاعي
مع اقتراب انتهاء مهلة أغسطس التي منحتها واشنطن لإيران لتسليم مخزونها من اليورانيوم المخصب ووقف تصنيع أجهزة الطرد المركزي
ونقل الموجود منها إلى الخارج، بدا المشهد الإقليمي وكأنه يتجه نحو منعطف خطير قد يعيد رسم خرائط التوازنات في الشرق الأوسط.
فالمطلب الأمريكي لا يعني فقط الضغط الدبلوماسي على طهران، بل يمثل محاولة لتجريدها من أي إمكانية للوصول إلى العتبة النووية، الأمر الذي تعتبره إسرائيل تهديداً وجودياً لا يمكن التهاون معه.
نقل القوات الأمريكية من قاعدة عين الأسد إلى أربيل يحمل دلالات متعددة؛ فمن جهة يمثل خطوة لتعزيز الحماية للقوات الأمريكية قرب المجال الإيراني، ومن جهة أخرى يعكس استعداداً لعمل عسكري محتمل بالتنسيق مع إسرائيل عقب انتهاء المهلة أو حتى قبلها.
لكن في المقابل، يبقى احتمال أن يكون هذا التحرك ورقة ضغط سياسية ورسالة ردع أكثر من كونه مقدمة لعمل عسكري مباشر.
هنا تتقاطع القضية الإيرانية مع الانشغال الأمريكي بملف أوكرانيا، إذ يظهر لقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع دونالد ترامب واصطحاب القادة الأوروبيين مع الرئيس زيلينسكي إلى واشنطن وكأنها رسالة مبطنة لإيران بأن الإدارة الأمريكية منشغلة بالأزمة الأوروبية، في محاولة لإبعاد طهران عن توقع ضربة عسكرية مفاجئة. هذه المناورة السياسية تحمل أبعاداً مزدوجة: فمن جهة تمنح واشنطن فسحة لطمأنة حلفائها الأوروبيين، ومن جهة أخرى تترك إيران في حالة ارتباك استراتيجي يصعب معها التنبؤ بخطوة واشنطن القادمة.
وفي خضم هذه التفاعلات، يطرح سؤال جوهري: أيهما أهم في الاستراتيجية الأمريكية؟ تحقيق السلام في أوكرانيا أم كبح قدرات إيران النووية؟
إذا كان الملف الأوكراني يمثل ساحة مواجهة مباشرة مع روسيا ويهم الأمن الأوروبي، فإن الملف الإيراني يتجاوز البعد الإقليمي ليطال أمن إسرائيل ومصالح واشنطن في الخليج.
وعليه فإن واشنطن تعمل على إدارة أزمتين متوازيتين دون التضحية بإحداهما على حساب الأخرى.
إلى جانب ذلك، يأتي اتفاق الصلح بين أذربيجان وأرمينيا بوساطة ترامب وما نتج عنه من ترتيبات تسمح للولايات المتحدة باستئجار ممر (زنكزور) الاستراتيجي، ليضيف بعداً آخر على خارطة الصراع. فهذا الممر لا يمثل مجرد إنجاز دبلوماسي، بل يمكن النظر إليه كجزء من مسعى أمريكي لإطباق الطوق الجيوسياسي على إيران وعزلها، بالتوازي مع الضغط العسكري والاقتصادي. إن تلاقي هذه العناصر مع تصريحات نتنياهو حول "إسرائيل الكبرى" يضع الأحداث في إطار أوضح: محاولة أمريكية إسرائيلية لإضعاف إيران ومحور المقاومة الإسلامية في المنطقة، وإعادة تشكيل الشرق الأوسط بما يضمن لإسرائيل تفوقها الاستراتيجي وهيمنتها السياسية. لكن تبقى الاحتمالات مفتوحة: فقد يتجه المشهد إلى مواجهة عسكرية إذا ما أصرت إيران على التمسك ببرنامجها النووي، أو إلى صفقة مفاجئة تعيد خلط الأوراق كما حدث في اتفاقيات سابقة. أما العراق، فيظل بيضة القبان في هذا الصراع، حيث تشكل أراضيه ساحة تجاذب بين واشنطن وطهران، وتبقى فصائل المقاومة الإسلامية فيه عاملاً مؤثراً في موازين الردع والاشتباك. في المحصلة، نحن أمام لوحة معقدة تجمع بين التهديد العسكري، والمناورات السياسية، والتحالفات المتغيرة. وهي لوحة ترسم ملامح مرحلة قد تحدد مستقبل النظام الإقليمي لعقود قادمة، في ظل سباق محموم بين مشروعين: مشروع أمريكي ـ إسرائيلي يسعى لتكريس الهيمنة، ومشروع إيراني ـ مقاوم يعمل على منع الانكسار وترسيخ معادلة الردع.