حسين العادلي
*(في الخيانةِ يوجد فاعلٌ واحدٌ يطعنُ من الخلف، أمّا في التواطؤ فالجميعُ يمسكونَ بالخنجرِ معاً!!)*
• ليس التواطؤُ مجرّدَ سكوتٍ عن الخطأ والمحرَّم والممنوع، بل هو منظومةُ صمتٍ وتخادُمٍ وتحايُلٍ يُحوِّلُ الانحرافَ من استثناءٍ إلى قاعدة، فيتجاوزُ الانحرافُ الفردَ إلى المجتمعِ والدولة، ويُسقِطُ الجميعَ في أتونِ الفساد.
• في الخيانةِ يوجد فاعلٌ واحدٌ يطعنُ من الخلف، أمّا في التواطؤ فالجميعُ يمسكونَ بالخنجرِ معاً!الخيانةُ فعلٌ فرديٌّ يستهدفُ الدولةَ أو الجماعة، أمّا التواطؤُ ففعلٌ جمعيٌّ يُفكِّكُ الضميرَ العام، ويحوِّلُ المجتمعَ إلى شبكةٍ من التبادلاتِ المصلحيّةِ المحتالةِ المغلقة.
ومن هنا كان فتكُه أشدَّ، لأنّ الخيانةَ تُدان، بينما يُجمَّلُ التواطؤُ ويُبرَّر.
• يبدأ التواطؤُ حين يُغَيَّبُ المبدأُ لصالحِ المنفعة، ويتحوّلُ الواجبُ إلى خيارٍ انتقائيٍّ.إنّه النظامُ الموازي للقانون، قاعدتُه: "أسكُت عنّي، وأسكُت عنك"، وسلاحُه التبريرُ المتبادل، وضحيّتُه الحقُّ والعدلُ والصالحُ الجمعيّ.
• تحتَ مظلّةِ "الزبائنية"، يتغذّى التواطؤُ من ثلاث بيئات:
1. الفسادُ السياسيُّ الذي يستبدلُ الولاءَ للمبدأ بولاءِ المنفعة.
2. الاجتماعُ النفعيُّ الذي يجعلُ السكوتَ فضيلة.
3. الضميرُ المُعطَّلُ الذي يبرّرُ لأنفسنا ما ندينُه في غيرِنا.وبذلك يُصبحُ التواطؤُ ثقافةً لا حالةً، ونظاماً أخلاقيّاً مقلوباً يحكمُ علاقةَ المواطنِ بالدولةِ، والتابعينَ بالقيادة.
• حين يُصبحُ التواطؤُ الميثاقَ غيرَ المعلنِ بينَ النخبِ والجماعات، تنهارُ ركائزُ الدولةِ، إذ:
1. يُفرَّغُ القانونُ من مضمونه لأنّ التواطؤَ يحوِّله إلى "استثناءٍ متاح".
2. تفقدُ المؤسسةُ معناها لأنّ الولاءَ ينتقلُ من المبدأ إلى الشخص.
3. يتآكلُ المجتمعُ لأنّ الضميرَ الجمعيَّ يُصابُ بالبلادةِ الأخلاقية.فتغدو الدولةُ تنسيقيّةَ مصالحٍ، ويغدو المجتمعُ حلقةَ صمتٍ عامٍّ مُخيف.
• إنّ التواطؤَ ليس خيانةً للوطن فحسب، بل انتحارٌ إنسانيّ قيميّ ببطءٍ؛ هو الوجهُ الآخرُ للفسادِ، وهو المرحلةُ الأخيرةُ قبلَ سقوطِ الدولةِ في اللاجدوى.فحين يتواطأُ الجميع، يُصبحُ الخِداعُ "عملاً بطولياً"، والصدقُ "فعلاً جنونيّاً"، والرفضُ "تهوراً سلوكاً"!
• يُولَدُ التواطؤُ حين يغيبُ المبدأُ وتتحكَّمُ المنفعةُ، ويُستبدَلُ القانونُ بالتبرير، والعدلُ بالمجاملة.فإذا كان التواطؤُ مجتمعيّاً، فسدَت القيمُ كما يُفسِدُ الصدأُ المعدن؛ وإن كان سياسيّاً، انهارتِ الدولةُ كما تنهارُ السقوفُ بتآكُلِ الدعامة.
• التواطؤُ نظامٌ خفيٌّ للدولةِ المعلَنة؛ تُديرُه الزبائنيةُ، وتُؤسِّسُه المحسوبيةُ، ويحميهِ الصمتُ والمجاملة.لا يُريدُكَ التواطؤُ إنساناً شريفاً ومواطناً صالحاً، بل فرداً نفعيّاً وشريكاً في السكوت؛ لتحمي مصلحتَكَ وتفقِدَ ضميرَكَ.
وحين يُصبِحُ التواطؤُ "قيمةً"، تَنهارُ الدولةُ "كقيمةٍ"، ويغدو الفسادُ هو المعيار الجديد للشَّرف!
• التواطؤُ، حالةُ وُجودٍ مُشوَّهٍ؛ فيه يُهادِنُ الضميرُ الخطيئةَ باسمِ الذريعةِ والحكمة.إنَّهُ نقطةُ التقاءٍ بينَ الجُبنِ والذكاءِ، بينَ المصلحةِ والعجزِ، بينَ الإيمانِ المخفيِّ والنفاقِ المتأنِّقِ! وحين يُبرّرُ العقلُ ما يرفُضُه الضميرُ، يصبحُ الإنسانُ كائناً متواطئاً مع نفسِه، ضدَّ نفسِه.
• التواطؤُ ليس اتفاقاً في الموقف، بل اتفاقٌ على إيقافِ الموقف؛ إنَّه صمتُ الوعي أمامَ انكسارِ القيم،وسقوطُ الضميرِ أمامَ تحسينِ الخطيئة.
• إذا لم يترفَّعِ الفردُ عن التواطؤ، ويرفضِ المجتمعُ سطوته، وتُجرِّمِ الدولةُ ممارسيه، فستنهارُ بُنى الحياةِ برمّتِها تحتَ وطأةِ روحهِ المُخرِّبةِ وآثارِه المدمّرة.