15 Nov
15Nov


بقلم د محمد القريشي


أدهشني في السنوات الأخيرة ظهور أصوات غنائية تقلّد، بمتعةٍ آسرة، أغاني ياس خضر وسعدي الحلي. أصواتٌ تحمل نحيبًا يتأرجح بين الصعود والهبوط، وتلتقي فيه روافد العتاب والشجن والغزل مرة واحدة، في تجلٍّ مبهر لخاصية العراقي في تنصيب صوته سفيرًا للقلب. 

ويُروى في هذا السياق، أن المطرب رياض أحمد، رحمه الله، كان يجهش بالبكاء عند تسجيله أغنية "مرّة ومرّة" حتى يضطر إلى إيقاف العمل ثم مواصلته من بعد.


قلتُ هذا لصديقٍ عربي كان يشاركني الاستماع إلى تلك الأصوات في أحد مقاهي بغداد. التفت إليّ وسألني:“ولكن… لماذا تحمل الأغنية العراقية كلَّ هذا الحزن؟”


أجبته:إن اللغة في هذه الأرض ليست مفرداتٍ مجردة ، بل طبقاتٌ من تاريخٍ ثقيل. اللغة هنا، كلمات مشبعةٌ بروائح  الحروب والعادات والغياب والمنفى والحبّ المستحيل.

فكلمة “الصبر” على سبيل المثال؛ تبدو في ظاهرها فضيلة محمودة، لكنها في اللسان العراقي، تتوسع لتلامس  معنى الخسارة المتواصلة بعد حرب أو انقطاع أو فراقٍ لا يردّ صاحبه. 

"فحقيقة" موت الولد لدى الأم العراقية تتحول إلى سراب  "عودة مؤجلة",  تعيش معها وتصبر  حتى الرمق الأخير من عمرها !  ومفردة “الولد”، نفسها على بساطتها، تتحول في الوعي العراقي  إلى جمرة ساخنة، فتعني، تارة الابن الذي مضى ولم يرجع، وتارة قُرّة العين الذي استُشهد،او  الذي راح أسيرًا، أو هاجر إلى بلادٍ لا يُعرف لها طريق عودة.
أما “الليل”، آه من الليل آه… كم هو غامض ومخيف في حياة العراقيين،كما جسّده المطرب الريفي سلمان المنكوب، حين صهَرَ كلماتٍ بكائيّةً(الليالي من الزمانِ حُبالى مثقلاتٍ يلدن كلَّ عجيبِ) بطين الهور والقصب، وجعلها تتنفّس معه وتبكي بصوته.



والليل هنا  ليس الجزء الساكن من اليوم كما تعرفه الشعوب، بل هو زمنُ الخوف والغدر، والطرقاتِ المجهولة، والانتظار، وكلّ ما يأكل الروح ويقرض ما تبقّى من العمر. هكذا رآه كثير من العراقيين عبر العصور.


قال لي:“وهل يطربكم هذا الحزن فعلًا؟”
ابتسمت وقلت:نعم… ويبدو أنه صار جزءًا اساسيًا من الهوية الثقافية  العراقية.حتى إن شابًا أردنيًا حدثني بدهشة عن لقائه، في جنوب فرنسا عام 1994، بشاب من أصول عراقية مهاجرة،شاب لم ير العراق يومًا، ومن أسرة  هاجرت  منذ بدايات القرن الماض، كلّفه أن يجلب له أشرطة لأغانٍ عراقية حزينة ( أريد أغاني تبجي) . 

لم يطلب مطربًا بعينه، بل طلب "الحزن" ذاته، كأنه أراد  حصته من الحزن التي خسرها في وجوده بالمهجر  !
وبينما كنّا نتهيأ لمغادرة المقهى، انطلقت في فضاء المكان صرخة سعدي الحلي:“لا يولدي…” وهي القصيدة  التي غناها  بعد ان اختطف الموت ولده. 

كانت الكلمات تتحرر  من حنجرته متكسّرة، كأنها شظايا نار، تصدم بعضها بعضًا.. وقفنا حينها  بخشوع امام شاشة التلفاز حيث يغني " ابو خالد" بعينين كسر شموخهما الموت ولكنهما  تكابران  رغم ذلك، وملامح غزاها الشحوب ولباس تقليدي خبا رونقه….  

لا يا ولديتدري الوقت هدنيأنا تعبت وردّتك تساعدني
وبتالي شيبي يا ولديتذلّني…

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2025 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن