منتصر صباح الحسناوي
تنتشر التسريبات الصوتية كظاهرة في العالم الرقمي، وتحوّلت إلى أدوات فاعلة في تشكيل الرأي العام وتوجيه بوصلة الاتهام نحو أسماء في مواقع النفوذ السياسي والإداري والاجتماعي. ما يُنشر لا يُعامل بوصفه “تسريباً” ينبغي التحقق منه، وإنما يكون كـ“حكم مسبق” تواكبه آلة إعلامية ضخمة ونزعة جماهيرية تغلّب الانطباع على التثبّت، والانفعال على الفحص، فيكون عند ذلك “الإلغاء”.
تقوم هذه الظاهرة على مزيج من التقنية والمحتوى والتوقيت، وتكمن خطورتها في أننا لا نمتلك “كأفراد” الوسائل الكافية للتمييز بين التسريبات الحقيقية والمزيفة.فبين مقطعٍ مجتزأ من سياقه وآخر تمّ تحريره أو اصطناعه بتقنيات الـ”Deep fake”، تزداد الهوّة بين الحقيقة وعدمها.
والأدهى من ذلك أن الهدف من نشرها لا يكون دائماً واضحاً أو نبيلاً، وإن ادّعى أصحابها أنه يندرج تحت باب “محاربة الفساد” أو “كشف المستور”.
في ظاهر الأمر إنّ التسريبات تهدف إلى فضح الممارسات الفاسدة أو كشف ما يُخفيه المسؤولون عن الناس وهي غاية مشروعة في المجتمعات الديمقراطية.
غير أن في كثير من الحالات لا يكون المقصود منها سوى تسقيط الشخص المستهدف وإضعافه أمام الرأي العام أو تصفية حسابات قد تكون سياسية أو إدارية أو حتى شخصية.وهو ما يجعلنا أمام مشهد ضبابي تختلط فيه النوايا وتتداخل فيه الأجندات.
قانونياً، لا تُعدّ التسريبات المسجّلة مهما كان محتواها أدلة دامغة ما لم تُستخرج بإجراءات رسمية وضوابط قانونية واضحة تضمن مصداقيتها وسلامة مصدرها.ففي ظل الانفتاح التقني بات تزييف الصوت وتحرير التسجيلات أمراً يسيراً تتيحه عدة برامجيات، ولهذا فإن الاعتماد عليها كأدلة دون إخضاعها لفحص تقني متخصص يُعدّ إخلالًا بالعدالة.
ادارياً ، من المفترض أن تتمتع مؤسسات الدولة بحماية من الابتزاز والتشهير غير المبرر، وذلك من خلال آليات تحقق داخلية شفافة تضمن المحاسبة الفعلية، اما تسريب التسجيلات خارج القنوات الرسمية يُعطّل هذه الآليات ويحوّل الرقابة إلى ساحة فوضى شعبية تتحكم فيها العواطف والتأويلات ثم التشهير والالغاء.
ثقافة الإلغاء، تسهم في تعميق هذه الظاهرة حين تتلقّف التسريبات كأنها وحي لا يأتيه الباطل، وتبني عليها موجة من الشتائم والمقاطعات والتشهير، دون أن تترك للمعلومة حقّها في التثبّت، أو للمتهم مساحة للدفاع.ويلعب المؤثرون والقنوات الفضائية ووسائل التواصل الاجتماعي أدواراً مركزية في صناعة هذه الهجمات الجماعية، فتتحوّل من قضية فردية إلى حملة تسقيط علنية تتجاوز الواقع، لتصبح صورة نمطية راسخة في أذهان الجمهور.
قلة الثقة، خطر هذا التحوّل لا يكمن فقط في الظلم الذي قد يُلحق بشخص بريء، وإنما في انهيار الثقة بين المجتمع ومؤسساته.فعندما تُستبدل آليات المحاسبة القانونية بالفيديوهات المسرّبة والمقاطع المفبركة، تصبح الدولة رهينة الانطباعات والانفعالات، وتفقد أدواتها في الإصلاح والمساءلة.
ومن هنا، تنبع الحاجة الماسّة إلى التوعية والتثقيف، كنهج مجتمعي يعلّم الناس كيف يتعاملون مع المادة الإعلامية بشكٍ ووعي. علينا أن نعلّم الأجيال، وهناك من سيقرأ هذه الكلمات سيتوقع الأولوية للصغار، ولكن الحقيقة أن التوعية ذات أهمية أكبر للفئات المجتمعية الكبيرة، الذين هم واقعاً أقلّ معرفةً بالتقنيات الحديثة وما يمكن أن تفعله.بالنتيجة، إن ليس كل ما يُنشر هو حقيقي، وإن التقنية قد تخدع العين والأذن، وإن الحقيقة لا تولد من ضجيج الحشود، بل من صمت المختبر وميزان العدالة.وهنا يكون الدور تكاملياً للمؤسسات والمنظمات بأنواعها، للتوعية والتثقيف بين “النقد الهادف” و”التشهير”، وبين “الفضح الأخلاقي” و”الابتزاز الإعلامي”.
في ضوء كل ما سبق، فإن بعض التوصيات تفرض نفسها:
أولًا: ضرورة تمكين الجهات القضائية والتقنية من أدوات متقدمة للتحقق من صحة المواد المسرّبة.
ثانيًا: محاسبة من ينشر تسريبات كاذبة أو مجتزأة بقصد التشهير.ثالثًا: دعم الإعلام المهني المستقل القادر على نقل الحقائق، لا على تضخيم الفضائح.
فالعدالة لا تقوم على أصوات مسرّبة في الظلام وتشهير جمعي دون معايير، وإنما على وضوح القانون وعدالة الإجراء.