في بادية نينوى، على طريق الحضر، تمتد الأرض كأنها صحراء صامتة، لكن وسط هذا الصمت تنفتح فجأة هوّة عميقة، تشقّ سطح الجغرافية مثل جرحٍ قديم. هذه الهوّة هي "الخسفة" حفرة طبيعية ولّدها انهيار أرضي، ظلّت لسنوات مجرد ظاهرة جيولوجية غامضة يتداول عنها الناس حكايات وأساطير، حتى تحوّلت في زمن قريب إلى واحدة من بقاع العراق التي تمتلئ وجعا.
الخسفة المعروفة لأهل الموصل وضواحيها على أنها حفرة بلا قرار، لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها لعمقها وجدرانها شديدة الانحدار، والظلمة التي تسكنها، التي كانت مادة للخرافة أكثر منها للواقع. ولكن، حين اجتاح تنظيم دا1عش الموصل عام 2014، اكتسبت هذه الهوّة معنىً آخر.
جعل التنظيم من الخسفة مقبرةً جماعية لأعدادٍ كبيرة من الرجال والنساء والأطفال، دفنوا فيها، ضحايا الإعدامات الميدانية أو الاختطاف أو التصفيات. سُكان القرى القريبة كانوا يسمعون أصوات الرصاص، ثم أصوات السيارات التي تقف عند حافة الهوّة، وبعدها يخيّم الصمت.
لا أحد كان يجرؤ على السؤال، ولا أحد كان يعود. شهاداتُ الناجين والحقوقيين بعد التحرير أكدت أن التنظيم ألقى في الخسفة جثثاً لمدنيين معارضين، ولعسكريين أسرى، ولأبرياء من كل الطوائف، من الإيزيديين إلى الشبك والمسيحيين والشيعة والسنة الذين رفضوا مبايعته.
بهذا الاستخدام تحوّلت الخسفة إلى ما يشبه البئر السوداء في ذاكرة العراق، حفرة واحدة تحملُ في بطنها قصة إبادة كغيرها من القصص في تاريخ هذا البلد، صمتها أبلغُ من كل خطابات الكراهية التي سبقتها. لا أحد يعرفُ الرقم الحقيقي للضحايا، لكن بعض التقديرات تتحدث عن آلاف.
بعد تحرير الموصل، بدأ الحديث يتصاعد عن الخسفة بوصفها ملفاً حقوقياً وإنسانيا، لكنَّ محاولات التنقيب واجهت صعوبات هائلة: ألغام زرعها التنظيم حول الموقع، طبيعة جيولوجية معقدة تمنع النزول الآمن، وعمق يجعل من عملية الانتشال مغامرةً خطيرة، لهذا بقيت الخسفة، حتى اليوم، سجناً لأرواح ينتظر أهلوها التحرير لها.
البعد الرمزي للخسفة لا يَقلُّ عن بعدها المادي.
فهي مرآة لمأساة تذكّر بأن الجغرافية قد تتحول أحياناً إلى شاهدٍ صامت على انحدار الإنسان إلى أقصى درجات العنف. الخسفةُ رمزٌ لجرحٍَ عراقي مفتوح، جرح يذكّرنا بأن الأرض تحفظ ذاكرة الدم، حتى وإن سكتت الأصوات.
21 آب يوم العالمي لضحايا الارهاب