بقلم: د. محمد مرعي الخزاعي
يُعد العراق نقطة ارتكاز جيوسياسية لا غنى عنها في الشرق الأوسط، لما له من موقع استراتيجي وثروات هائلة، وتاريخ يمتد لآلاف السنين. هذه الصلابة الكيانية التي يتمتع بها العراق لم تكن وحدها كافية لضمان استقرار نظامه السياسي، الذي تعرض لهشاشة عميقة بفعل تراكم الأزمات الداخلية وتأثيرات الخارج.
في هذا السياق، لا يمكن فهم هشاشة النظام السياسي العراقي دون النظر إلى الأطماع الخارجية التي تُلقي بظلالها على المشهد الداخلي. تركيا، التي ورثت نزعة عثمانية تاريخية، لا تزال تحلم باستعادة نفوذها في المناطق التي كانت تابعة للإمبراطورية العثمانية، ومنها العراق. سياسة أنقرة تجاه العراق ليست محصورة على علاقات اقتصادية أو أمنية فقط، بل تتخطاها إلى تحركات تهدف إلى تثبيت وجودها العسكري والسياسي في شمال العراق، عبر دعم بعض الفصائل أو توظيف قضية الأكراد للضغط على بغداد.
وفي سياق الحديث عن تحركات تركيا، تجدر الإشارة إلى أن حلم التوسع الإقليمي التركي لا يمكن قراءته بمعزل عن الخلفية التاريخية. ففي حين أن مؤسس تركيا الحديثة، مصطفى كمال أتاتورك، كان علمانياً بامتياز ولم يكن معنياً بالمشروع المذهبي، إلا أنه كان يحمل تصوّراً لتوسيع النفوذ التركي بما يعيد لبلاده جزءاً من رقعة الدولة العثمانية السابقة. أما الرئيس التركي الحالي، رجب طيب أردوغان، فقد تبنى مشروعاً أكثر وضوحاً نحو إعادة إحياء أمجاد الدولة العثمانية ليس فقط من حيث رقعتها الجغرافية، وإنما أيضاً من خلال استحضار عقيدتها...
على الجانب الآخر، تظهر دول الخليج مخاوف عميقة من نهضة العراق السياسية والاقتصادية التي قد تُغير موازين القوى الإقليمية. تكرار التحالفات والتقارب بين العراق وإيران يعزز من هذا القلق، حيث تنظر دول الخليج بعين الريبة إلى العلاقة الوثيقة التي تربط بغداد بطهران، معتبرةً إياها تهديداً مباشراً لأمنها القومي. هذا سوء الظن يدفعها إلى سياسات تتراوح بين التضييق الاقتصادي والتحالفات الأمنية، في محاولة للحد من تأثير العراق المتزايد الذي قد ينافس دورها في المنطقة.
فيما يتعلق بإيران، تلعب دورًا محوريًا في المشهد العراقي سواء على المستوى السياسي أو الأمني. فقد استطاعت طهران بناء نفوذ واسع عبر دعم فصائل سياسية وعسكرية داخل العراق، مما جعلها لاعباً إقليمياً مؤثراً في صنع القرار العراقي. هذا النفوذ أتاح لإيران فرصة تعزيز مصالحها الاستراتيجية وتأمين حدودها من خلال حليف قوي في بغداد.
ومع ذلك، فإن هذا التقارب العراقي-الإيراني يثير قلقًا كبيرًا لدى دول الجوار، خصوصًا دول الخليج العربي، التي ترى في هذا التقارب تهديدًا لاستقرار المنطقة وموازين القوى التقليدية. تخشى هذه الدول من أن يؤدي النفوذ الإيراني المتنامي إلى تحويل العراق إلى ساحة للصراعات الإقليمية، مما قد يزعزع أمنها الداخلي ويحد من نفوذها الإقليمي.
أما فيما يخص الأطماع الإيرانية في العراق، فهناك تباين في الرؤى؛ فبعض المحللين يرون أن طهران تسعى بوضوح إلى توسيع نفوذها عبر أدوات متعددة تشمل الدعم السياسي والعسكري، وتحقيق مصالحها الاقتصادية والأمنية، مستغلة الفراغ السياسي والاضطرابات الداخلية في العراق. بينما يرى آخرون أن هذا التصور مبالغ فيه، وأن ما يحدث هو تحسس مفرط من قبل جيران العراق، خاصة دول الخليج، والتي تنظر إلى النفوذ الإيراني بعين الريبة والشك، دون وجود خطط توسعية واضحة تستهدف الدولة العراقية ذاتها.
هذا التوتر الإقليمي يعكس تعقيدات المشهد السياسي في العراق، ويبرز الحاجة إلى سياسة عراقية متزنة تعزز من سيادته وتوازن علاقاته الإقليمية بما يحفظ أمنه واستقراره.
إن التداعيات الداخلية لهذه المؤثرات الخارجية تظهر جلية في الانقسامات السياسية المتزايدة داخل العراق، حيث تضعف ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة، ويتفاقم الفساد السياسي والمالي، ويتراجع دور القانون والمؤسسات في تحقيق العدالة وحماية الحقوق. وتتحول الساحة السياسية إلى حلبة صراعات محمومة بين الأحزاب والكتل، مما يعرقل قدرة الحكومة على اتخاذ القرارات الضرورية للانتقال بالعراق نحو الاستقرار والتنمية.
من جهة أخرى، لا يمكن إغفال التأثيرات الاقتصادية السلبية الناجمة عن هذه الأوضاع، إذ تعاني البلاد من اعتماد مفرط على إيرادات النفط، والتي تتعرض لتقلبات الأسواق الدولية، بالإضافة إلى الضغوط الاقتصادية الخارجية التي تعوق فرص الاستثمار والتنمية. هذا الواقع الاقتصادي الهش يعمّق من الأزمة الاجتماعية ويزيد من حجم البطالة والفقر، ما يهدد الاستقرار الأمني والسياسي على المدى البعيد.
إن هذه العوامل مجتمعة تجعل العراق يقف على مفترق طرق حاسم بين عدة سيناريوهات محتملة. فمن جهة، قد يؤدي استمرار تدهور الوضع السياسي والاقتصادي إلى انهيار النظام السياسي، مع تفاقم الاحتجاجات الشعبية وفقدان الشرعية، وربما انزلاق البلاد إلى مزيد من الفوضى. ومن جهة أخرى، هناك احتمال انهيار الدولة في حال فقدان السيطرة الأمنية على المناطق الحيوية، وظهور نزعات انفصالية أو تدخلات خارجية تزيد من تفكيك الوحدة الوطنية.
لذلك، فإن معالجة هذه التحديات تتطلب تبني رؤية شاملة ترتكز على إصلاحات سياسية واقتصادية عميقة، تشمل تعزيز مؤسسات الدولة، وبناء نظام انتخابي عادل يضمن مشاركة فعالة للمواطنين، وتكريس سيادة القانون والعدالة، ومحاربة الفساد بشفافية وصرامة، وتنويع الاقتصاد الوطني لتقليل الاعتماد على النفط، وتطوير البنية التحتية والخدمات الاجتماعية.
كما ينبغي أن تراعي هذه الرؤية ضرورة ضبط النفوذ الخارجي، من خلال سياسة خارجية متوازنة تضمن احترام السيادة الوطنية، وتعزيز العلاقات الإقليمية على أساس الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، مع العمل على تخفيف التوترات بين العراق وجيرانه، خصوصاً تركيا ودول الخليج، لتأمين بيئة إقليمية مستقرة تشجع على التنمية والسلام.
في الختام، يبقى العراق على مفترق طرق بين صلابة كيانه التاريخي وهشاشة نظامه السياسي الراهن، وبين تحديات داخلية وخارجية كبيرة. إن نجاح العراق في تجاوز هذه التحديات لن يكون إلا عبر إرادة وطنية صادقة، وتوافق وطني حقيقي، ورؤية تنموية شاملة، تحفظ حقوق شعبه، وتحافظ على وحدته، وتؤسس لمستقبل مزدهر وآمن.