07 Aug
07Aug



بقلم: د. محمد مرعي الخزاعي



مقدمة:
منذ العام 2003، دخل العراق مرحلة سياسية غير مسبوقة، انطلقت بإسقاط نظام شمولي، وانتهت بكتابة دستور يُفترض أنه يرسي أسس نظام ديمقراطي تداولي. وقد جاء دستور عام 2005 صريحًا في تأكيد مبدأ التداول السلمي للسلطة، وتبنّي النظام البرلماني التعددي، بما يفترض أن يجعل من الديمقراطية قيمة حاكمة وممارسة مؤسسية. غير أن الواقع العراقي، خلال ما يقرب من عقدين من الزمان، يُظهر مفارقة صارخة بين ما كُتب في الدستور، وما جرى فعليًا على الأرض.

فبدلًا من أن تكون الديمقراطية إطارًا جامعًا لتداول السلطة والتنافس النزيه، تحولت – في كثير من الأحيان – إلى مجرد أداة في يد قوى سياسية تمارسها تكتيكيًا لا مبدئيًا، وتخضعها لمعادلات المحاصصة والتغالب السياسي. وأسوأ ما في هذا المشهد، ليس فقط الانحراف عن جوهر الديمقراطية، بل الاحتفاظ بشكلها الخارجي، مع إفراغها من مضامينها القيمية.

في هذا المقال، نحاول أن نعيد قراءة التجربة الديمقراطية في العراق من زاويتين:


- الأولى: هل كانت الديمقراطية خيارًا وطنيًا نابعًا من قناعةٍ حقيقية؟


- الثانية: أم أنها كانت مشروعًا مفروضًا من الخارج، استُقبل من الداخل بأدوات قديمة وأذهان لم تغادر لحظة ما قبل الدولة؟

المحور الأول: الديمقراطية في النص الدستوري العراقي


جاء دستور العراق لعام 2005 ليعلن أن العراق دولة ديمقراطية نيابية برلمانية، تعتمد التداول السلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع. وقد تضمّنت مواده مبادئ التعددية، والفصل بين السلطات، واحترام الحريات العامة. غير أن هذا النص، على قوته، لم يرافقه تأسيس واقعي لمجتمع سياسي مؤمن بالديمقراطية، مما جعل كثيرين يتساءلون: هل كُتب هذا النص من واقع ناضج، أم فُرضَ تحت ضغط خارجي؟

المحور الثاني: الممارسة السياسية وواقع السلطة


منذ أول انتخابات، لم يُجسّد التداول السلمي للسلطة فعليًا، بل اختُزل إلى صفقات ومحاصصات. تحوّل البرلمان إلى ساحة تجاذب، والوزراء إلى ممثلين عن كتل لا عن الدولة. الوجوه نفسها، والمقاعد نفسها، والقرارات تُدار خلف الأبواب، لا عبر صناديق شفافة أو قناعة شعبية.

المحور الثالث: هل تؤمن الطبقة السياسية بالتداول السلمي؟


الإيمان الحقيقي بالديمقراطية لا يكون بالخطاب، بل بالسلوك. ما يحدث داخل قبة البرلمان من اشتباكات لفظية وجسدية يكشف أن الكثير من الطبقة السياسية لا ترى في الديمقراطية إلا وسيلة عبور، لا قيمة حاكمة. والقبول بالخسارة ما زال يُعد عارًا، لا انتقالًا مشروعًا.

المحور الرابع: بين الفرض الخارجي والقبول الداخلي – من المسؤول؟


لا يُخفى أن النظام السياسي الحالي جاء بتدخل خارجي، لكن استمرار اختلاله اليوم هو مسؤولية داخلية محضة. الديمقراطية لا تُستورد، بل تُبنى، وما لم تتبناها القوى الوطنية بوعي صادق، فستبقى شكلًا بلا مضمون.

المحور الخامس: الطريق إلى إصلاح سياسي حقيقي


الإصلاح يبدأ من الداخل: نظام انتخابي عادل، معارضة حقيقية، مؤسسات رقابية، فصل بين الحزب والدولة، وثقافة تؤمن بأن التداول السلمي للسلطة هو أداة إنقاذ، لا تهديد.

المحور السادس: النظام السياسي على ذات الوتيرة... نحو الانهيار المحتوم؟
إذا استمر النظام على ذات الوتيرة، فإننا نقترب من لحظة انفجار. المحاصصة، وإنكار نتائج الانتخابات، وتهميش المعارضة، تقود إلى فقدان الشرعية، وربما إلى تدخل خارجي جديد، أو فوضى داخلية. على القوى السياسية أن تفهم أن التداول السلمي ليس ترفًا، بل صمام أمان، وأن العناد في وجه الإصلاح لن يُنتج إلا انهيارًا حتميًا.

خاتمة:
لم تكن الديمقراطية يومًا مجرّد آليات انتخابية، بل هي منظومة أخلاقية وقانونية وسلوكية. وإذا أراد العراق الجديد أن ينهض، فعليه أن ينتقل من ديمقراطية النصوص إلى ديمقراطية النفوس، ومن شكل الدولة إلى مضمونها. وإلا فإن التجربة ستبقى تدور في دائرة مغلقة، تُعيد إنتاج أزماتها، وتُضيّع فرص النجاة.


تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2025 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن