بقلم: الاعلامية غنى شريف من لبنان
في عالمٍ تتبدل فيه المواقف بتبدل المصالح، يبقى الشعب العراقي حالة استثنائية من الثبات على المبادئ، والتضحية من أجل الحق، والصبر في وجه المحن. فمنذ فجر التاريخ، حين بزغت أولى حضارات الإنسانية في سومر وأكد وبابل، شكّل الإنسان العراقي نواة للتمدّن، وركيزة للأخلاق، وحاملًا لرسالة الإنسان الحر.
لم يكن العراقي في يومٍ من الأيام صامتًا أمام الظلم، بل كان في مقدّمة الصفوف، يدفع ضريبة مواقفه من دمه وأمنه واستقراره، دون أن يتراجع. لقد جسّد الشعب العراقي مفهوم الثورة مبكرًا، وكرّس في وجدانه الجمعي أن الكرامة لا تُنتزع، بل تُصان بالدماء.
وتبقى واقعة كربلاء ، في العام 61 للهجرة، الحدث المفصلي الذي أرسى هذا المفهوم في عمق الوعي الشعبي العراقي، حيث تحوّل موقف الإمام الحسين بن علي عليه السلام إلى منارة خالدة لكل من يرفض الاستبداد، ويؤمن أن التضحية من أجل العدل ليست مجرد بطولة، بل مسؤولية أخلاقية.
مرّت على العراق حقب قاسية، من احتلالات متعاقبة، ونُظم حكم قمعية، وحروب طاحنة، وحصار خانق، لكنّ الشعب العراقي لم يفقد بوصلته يومًا. في ثورة العشرين ، اجتمع العراقيون، شيعة وسنة، عربًا وكردًا وتركمانًا، في ملحمة وطنية ضد الاحتلال البريطاني، أكدوا خلالها أن هذا الشعب لا يُحكم إلا بإرادته.
وفي العصر الحديث، لم يغب هذا الصوت عن الساحات. فقد شهد العراق انتفاضات عدة، أبرزها انتفاضة 1991 ، ضد القمع، ثم ثورة تشرين 2019 ، التي قدم فيها الشباب العراقي نموذجًا ملهمًا للإصرار على التغيير السلمي، رغم القمع والرصاص.
خرجوا يهتفون باسم الوطن، لا باسم حزب أو طائفة، رافعين شعار "نريد وطنًا"، في رسالة واضحة بأن مطالبهم لا تنفصل عن عمقهم التاريخي المقاوم.
وعلى مرّ العصور، شهد العراق ثورات وانتفاضات كثيرة كلها تؤكد أن العراق كان، ولا يزال، أرضًا خصبة للرفض والمقاومة ، وغالبًا ما يدفع العراقيون ثمنًا غاليًا لمواقفهم.
وتكرّست ثقافة "الثورة على الظالم" في الوجدان العراقي، ليس فقط في البُعد الديني، بل حتى في الحركات القومية والوطنية فيما بعد ، ولديه خط فكري وأخلاقي يعتبر أن مواجهة الظلم واجب، حتى لو كان الثمن هو النفس .
لكن ما يميز العراقي ليس ثوريته فحسب، بل سخاؤه الإنساني أيضًا. فهو شعب مضياف، كريم في عطائه، عزيز في مواقفه، لا يبخل بشيء حين يتعلّق الأمر بإغاثة محتاج، أو نصرة مظلوم. لقد بقي، رغم الأزمات، متمسكًا بقيمه النبيلة، متشبثًا بتقاليده الأصيلة، واثقًا من أن فجر العدالة آتٍ لا محالة.
العراق ليس مجرد بلد غني بالنفط والتاريخ، بل هو وطن شعبٍ صنع المجد بمعاناته، وكتب تاريخه بدماء شهدائه، وصنع حاضره بتضحيات شبابه ، شعبٌ لا يعرف اليأس، لأنه ببساطة، اعتاد أن يولد من تحت الركام، أقوى، وأشدّ عزيمة.