05A2EDD17376135DD5B5E7216D8C98DB
26 May
26May


محمد الكلابي


منذ أن تأسست الدولة الحديثة على أنقاض العنف والانقياد، نشأ خطاب ناعم يُعرف بـ"العقد الاجتماعي"، يوحي بأن السلطة وليدة توافق، وأن الناس قد اختاروا وقرّروا ووقّعوا بإرادتهم. لكن من اجتمع وقرّر أصلًا؟ ومتى صاغ هذا الشعب المفترض مصيره بوصفه طرفًا سياديًا مكافئًا؟ إنها فرضية تأسيسية تُجمّل القسر وتُشرعن الإقصاء. الشعب لم يكن طرفًا، بل مادة لغوية يُتحدَّث عنها، لا صوتًا ناطقًا باسمه.


في فلسفة هوبز، العقد كان خضوعًا منظمًا تحت وطأة الخوف من الفوضى. الإنسان، في نظره، ذئب لأخيه الإنسان، لا ينقذه إلا سلطان مطلق يُجمِّد حريته مقابل الأمن. لكن من وقّع؟ أما جون لوك، فرغم ادعائه الانطلاق من "الحقوق الطبيعية"، فقد صاغ عقده لحماية الملكية، لا لتحرير الإنسان. السلطة تُمنح بشروط طبقية، تحفظ مصالح المالكين لا كرامة المحرومين. 

ثم جاء روسو ليصوغ حلم الإرادة العامة، لكنه تناقض حين برر الإكراه باسم الحرية بقوله: "يُجبر الناس على أن يكونوا أحرارًا". 

فكيف تُبنى الإرادة على الفرض، والحرية على الإلزام؟
ما يجمع هؤلاء الفلاسفة، رغم تباينهم، هو افتراض وجود شعب موحّد، واعٍ، حاضر، قادر على التفاوض. لكن هذا الشعب ليس كيانًا حيًا بل بناء بلاغي يُستدعى لتجميل السلطة، ثم يُقصى حين يُتخذ القرار. عبارة "باسم الشعب" كثيرًا ما تكون غطاءً لغويًا تُمرّر تحته إرادات الأقلية.

 الشعب، في هذه العقود، ليس شريكًا، بل ذريعة.

تاريخيًا، لم تحدث لحظة اجتمع فيها الناس لصياغة عقد فعلي. 

ما حدث هو فرض صيغ جاهزة، تُكتب في غرف مغلقة وتُعرض كأمر مفروغ منه. في جمهوريات ما بعد الاستعمار، لم يكن الشعب سوى متفرّج يُستدعى للاستفتاء على نصوص لا يملك مناقشتها. حتى الثورة الفرنسية، التي يُقال إنها مهد التعاقد، انتهت إلى استبداد مقنّع بلباس إمبراطوري.
أما الحاضر، فلا يقل انكشافًا. 

حين يُقال إن الدستور يمثلنا، ينبغي أن نسأل: من صاغه؟ من راجعه؟ من حضر تلك اللحظة التأسيسية؟ التمثيل تحوّل إلى طقس رمزي. 

يُستفتى الشعب دون أن يُستشار، ويُدعى للتصويت لا للتقرير. سيادته تُختزل في ورقة اقتراع، بينما تُسلب منه أدوات النقض والمساءلة.
لقد تحوّل "العقد" من وسيلة مساءلة إلى أداة تبرير.

 يُقدَّم بوصفه مُلزِمًا، مع أن أحد طرفيه غائب عن الطاولة. ما نحتاجه ليس عقدًا جديدًا فحسب، بل تصورًا مختلفًا: لا كنص جامد، بل كعملية حية، يتجدد فيها التفويض، وتبقى السلطة قابلة للمراجعة والنقض.


هناك تجارب تلهم، لا لأنها مثالية، بل لأنها كسرت النمط. في بلديات البرازيل، شارك المواطنون فعليًا في تحديد أولويات الميزانية المحلية. 

في شمال سوريا، نشأت مجالس قاعدية تُجدد السلطة من الأسفل، وتمنح المجتمع أدوات الرقابة وسحب الشرعية. 

هذه النماذج تُثبت أن التمثيل القسري ليس قدرًا، وأن المشاركة ممكنة حين توجد الإرادة.
في المشهد السياسي المعاصر، يُستدعى "الشعب" كقناع بلاغي. 

في الانتخابات، يُقال إنه قرّر، رغم أن القرار صيغ خلف الكواليس. 

في الثورات، يُقال إنه انتفض، لكن من يقطف الثمار هم الأكثر تنظيمًا، لا الأكثر تمثيلًا. في الانقلابات، تُعلّق البيانات باسمه، دون أن يُعطى حتى فرصة الاعتراض. الشعب هنا هو الشخصية المحورية التي لا صوت لها ولا مقعد.


أوضح تمثيل لذلك في المسرح السياسي، حيث يُقدَّم الشعب ككائن رمزي. 

السياسيون يرفعونه على المنصات، يلقون باسمه الخطابات، ويُسقطون عليه كل شرعية. 

لكنه لا يُرى في مواضع القرار، بل يُقصى إلى الظل. 

تارةً شاهد زور، وتارةً ضحية، وتارةً مادة خام تُشكَّل حسب مقتضيات السلطة. في هذا المشهد، العقد ليس اتفاقًا، بل سيناريو معدّ سلفًا يُطلب من الجميع أداء أدوارهم فيه.


إذا أردنا عقدًا حقيقيًا، فعلينا أن نكفّ عن تقمّص الأدوار. 

أن نُسقط مسلمات التفويض الأبدي. أن نعيد تعريف السلطة لا كممثّلة عنا، بل كمخضعة لمساءلتنا الدائمة. 

أن نبني شرعية متجددة، لا مستنسخة من لحظات غابرة.

 ذلك العقد لم يُكتب بعد، ولن يُكتب ما لم نكن شركاء حقيقيين في صياغته، لا شهودًا على تبريره.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2025 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن