د. محمد القريشي
نبذتهم مجتمعاتهم وعاشوا على هوامشها، فقراء ومشردون بسبب اصولهم او ألوان بشرتهم فقاوموا الاستبداد بالشعر تارة والغزو تارة اخرى، وكتبوا عن معاني الحرية والعدل والكرم والشجاعة التي حرموا منه حتى اكتسب زعيمهم عروة بن الورد صفة ”أكرم الصعاليك وأميرهم" ، لفروسيته وشهامته ونبله.
ولا تتضمن مفردة الصعاليك، اتجاهاً سلبيا خالصا في السياق الادبي والتاريخي للعصر الجاهلي بل غالبا ما اكتسبت بعداً مركبا من الإيجابية، لانها تعلقت بفقراء وشجعان متمردين على الظلم الاجتماعي، ومن السلبية، لانها تناولت افرادا وجماعات خارجين عن النظام العام للمجتمع.
وقد قسم بعض الباحثين هذه المجموعة إلى ثلاثة أصناف: أولهم، الخلعاء الشذاذ، الذين طُردوا من قبل قبائلهم لكثرة الجرائم، ومنهم، حاجز الأزدي وقيس بن الحدّادية وأبي الطحان القيني.
وثانيهم ، أبناء الحبشيات السود، الذين نبذهم آباؤهم لعار ولادتهم، ومنهم، السليك بن السليكة و تأبط شرًا و الشنفرى، وثالثهم، الأفراد الذين احترفوا الصعلكة مثل عروة بن الورد، وأحيانًا قبائل باكملها كقبيلتي هذيل وفهم.
تستعر في دواخلهم ثورات عارمة على الأغنياء الأشحاء، وتتردد في أشعارهم جميعًا صيحات الفقر والجوع وتكتسب ذواتهم خصائص القوة ومقاومة قسوة الظروف البيئية. وإضافة لكل ذلك، تعددت المخاطر من حولهم فصاروا بطبيعتهم، مستنفرين سريعي العدو ، حتى ليسمون بالعدائين، فأضحوا مضرب الأمثال في سرعة العدو.
ويقال في ذلك، مثلا: "أعدى من السليك" و"أعدى من الشنفرى"، وتُروى عنهم أقاصيص كثيرة في هذا الجانب؛ ومن بينها، ما يقال عن احد اعلامهم، تأبط شرًّا، من أنه "كان أعدى ذي رِجلين وذي ساقين وذي عينينِ، وكان إذا جاع لم تقُم له قائمة؛ فكان ينظرُ إلى الظباء، فينتقي على نظره أسمنها، ثم يجري خلفه، فلا يفوته، حتى يأخذه فيذبحه بسيفه، ثم يشويه فيأكله".
وبما أنهم وُجدوا في قلب بيئات قاسية لا ترحم، فقد تكيّفوا مع خشونتها ، وألفوا صروفها، حتى غدت جزءًا من لغتهم ومزاجهم، فبرعوا في تصوير مآسيها وتقلباتها، وكأنهم يكتبون فصول حياتهم على صفحات رياحها العاتية وحرّها اللافح وبردها القارس، كما فعل السليك بن السلكة في قوله :
وإنِّي امرؤٌ أحيي الغداةَ بطعنةٍوأُمسِي وإن لم أجدْ الزادَ صابرًا
أُكابدُ حرَّ الصيفِ ثمّ كأننيعليهِ وإنْ لم يغشَني البردُ عاريا
وهنا وصف السليك، صبره على الجوع والحرّ حتى صار جسده كأنّه عارٍ في صقيع، لا لأن البرد لفّه، بل لأن لهيب الصحراء سلبه الإحساس، وجعل القيظ يبدو كزمهريرٍ يابس.
وفي الزمن الحديث، تشكّل نمط من “الصعلكة الثقافية” كتيار صامت، يتقدّمه كتّاب وفنّانون تمرّدوا على الأطر الجاهزة، واختاروا الهامش موطنًا روحيًا، إمّا بقراراتهم الحرّة، أو لخصوصياتهم السياسية والفكرية الثائرة، فآثروا العيش في “المعنى” الذي يصنعونه بأنفسهم، على الرتابة التي يفرضها عليهم المجتمع.
ومن هؤلاء، الشاعر العراقي، عبد الأمير الحصيري، الذي عاش متشردًا في بغداد، رافضًا الوظيفة ومتمسكًا بالشعر، وكتب قصيدته الشهيرة:“أنا التشرد والحرمان والأرقُ أنا الذي وطنُهُ الشارعُ الطُّرُقُ”كتب عن تشرده، الشاعر سعدي يوسف، وقال "أحيانا كنت أمر بمبنى إتحاد الأدباء، عائداً إلى منزلي بحي (زيّونة)، فأرى كومةً سوداء عند الباب الحديد للإتحاد، أتوقف لأرى عبد الأمير الحصيري، متهاوياً، وقد أدمى وجهه الضرب.
رفاقه في إتحاد الأدباء هم من أشبعوه ضرباً. آخذه معي بالسيارة. أمضي به إلى بيتي.
أُبدل ملابسه بعد الحمام. جيوبه ملأى بالقصائد…كنت أحتفظ بقصائده. أهديته عدة حلاقة جيدة. لكنه بعد أقل من شهر باعها بنصف دينار. فعاد وجهه البهي إلى سيماء الصعاليك.."وكتب صديقه الشاعر د عبد الإله الصائغ، قائلا "كانت معرفتي بالشاعر عبدالامير الحصيري في نهاية الخمسينات او بدايةالستينات عندما كنا تلاميذ ثانوية في النجف معرفة سطحية لاتتعدى السلام عندما يواجه بعضنا بعضا , ولم يدر كلام بيننا ولكني كنت اعرف عنه انه شاعر في بداياته يساري الاتجاه وشيوعيا بالتحديد . في بداية السبعينات التقيته مصادفة في شارع الرشيد في بغداد , كان بحالة رثة ويرتدي أسمالا بالية ولم يجد المشط الى شعره سبيلا , استقبلني بحفاوة بالغه وكأننا اصدقاء حميمين.."
ورغم بؤسه وشظف عيشه، فقد وصف الحصيري نفسه بكبرياء وزهو مستخدما عبارات مثل "أنا شيخ الصعاليك منذ ابتداء الزمان" و "اني لا يحد في شيء عن أن أطلق على نفسي، بأنني شاعر هذا العصر وهذا العالم من القطب إلى القطب وليس من الخليج إلى المحيط وحسب…"
كان الحصيري ابنًا حقيقيًا "للهامش العراقي" ، بكل ما فيه من بؤس وجوع وقمع واحتقار، ولم يهرب من هذا الواقع، بل تماهى معه وواجهه بكلمات من داخله، بلغته ومن موقع الضحية لا القاضي… واجهه وكان لسان حاله يقول :"كلّنا غرقى، وأنا معكم، لكنني أصرخ.. اصرخ بالشكل والمضمون".