بقلم أ.م . د. محمد مرعي الخزاعي/ جامعة الإمام جعفر الصادق (ع)
لم يكن صباح الحادي عشر من نوفمبر 2025 يوماً عادياً في ذاكرة العراقيين، فقد وقف المواطن مرة أخرى أمام صندوق الانتخابات، بعضها بدافع الأمل، وبعضها بدافع الخوف، وأخرى بفعل المال السياسي الذي بات يتحرك في الانتخابات كأنه أحد “المرشحين” الكبار.
رغم ارتفاع نسبة المشاركة مقارنة بالانتخابات السابقة، إلا أن هذا الارتفاع لا يعكس بالضرورة صحوة ديمقراطية أو وعيًا انتخابيًا جديدًا.
فالعراقيون — كما بدا واضحًا — لم يذهبوا إلى صناديق الاقتراع بدافع الثقة بالنظام السياسي، بقدر ما دفعهم القلق من المستقبل، والخشية من تغوّل الطوائف، وتصاعد الخطابين السني والشيعي اللذين أحييا ذاكرة الانقسامات ودفَعا شريحة واسعة للتصويت “حمايةً” لا “اختياراً”.
أما المال السياسي، فكان حاضرًا بقوة، يشق طريقه عبر الوعود، والهبات، وسلال المساعدات، والعقود المؤقتة، والمبادرات الموسمية التي تنشط دائمًا في الأيام التي تسبق الانتخابات ثم تختفي بتلاشي أصوات الصناديق.
لذلك، فإن الحديث عن “نضج ديمقراطي” في ضوء المشاركة المرتفعة يبدو أقرب إلى التجميل منه إلى التشخيص السياسي الموضوعي.
برلمان جديد… وتحديات قديمة
لا يبدو أن البرلمان الجديد قادر على إنجاز مشاريع وطنية كبرى. فالعراق لا يعاني من نقص في الكفاءات أو الخبرات، بل من غياب بيئة سياسية وإدارية تسمح لهذه الكفاءات بالعمل.
المشكلة ليست في الأشخاص فقط، بل في تركيبة النظام السياسي ذاته، الذي توزّع فيه السلطة بين الأحزاب والفصائل والمصالح الاقتصادية والنفوذ الخارجي، بحيث لم يعد البرلمان هو مركز القرار، بل مجرد ساحة تفاوض. لهذا، فإن المشاريع الاستراتيجية — كتنويع الاقتصاد، وتطوير الطاقة، واستثمار الغاز، وفك الاختناقات المالية، وتحسين البنى التحتية — لا تجد طريقها إلى التنفيذ إلا على الورق. وحتى إذا بدأت، فإنها غالباً ما تتعثر بين تغيير الحكومات أو تبدل المزاج السياسي.
سياسة خارجية بصوتين… وربما أكثر لا يمكن للعراق أن يستعيد مكانته الإقليمية وهيبته الدولية ما دام داخلُه منقسمًا. فالسياسة الخارجية هي انعكاس مباشر لوحدة القرار الداخلي.
وفي العراق، تتصارع الرؤى بين قوى مختلفة، لكل منها امتدادات خارجية، ولكل منها حسابات تختلف عن حسابات الدولة. وبين النفوذ الإيراني، والضغط الأميركي، وحسابات دول الجوار، يجد العراق نفسه غير قادر على تبني سياسة خارجية موحدة تستند إلى المصلحة الوطنية قبل أي شيء آخر.
فلا يمكن لبلدٍ يريد أن يستعيد موقعه أن يتحدث بأكثر من صوت، ولا يمكن لدبلوماسية مقيدة أن تحقق ما يعجز عنه الإجماع الداخلي.
السيناريوهات المحتملة لمستقبل العراق في ضوء الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي، يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات رئيسية:
السيناريو الأول: استمرار الوضع الحالي - وهو الأكثر ترجيحًا - تستمر التوافقات الهشة، وتستمر الأزمات دون حلول جذرية. قد يتحقق استقرار نسبي، لكنه سيكون استقرارًا “مُدارًا” لا “مؤسسًا”.
السيناريو الثاني: تحسن نسبي إذا توصلت القوى المؤثرة إلى تفاهمات داخلية، وإذا خفت التوترات الإقليمية، فقد يشهد العراق فترة راكدة لكنها أقل توتراً.
السيناريو الثالث: التدهور هذا السيناريو ممكن إذا تزامنت عوامل مثل تراجع أسعار النفط، وانهيار التفاهمات السياسية، أو اندلاع احتجاجات شعبية واسعة.
وهنا قد يعود العراق إلى مربع الاضطراب. الفرص الممكنة… والفرص الضائعة العراق ليس بلدًا فقير الإمكانات، لكنه بلد فقير الإدارة. فالفرص في متناول اليد، لكن لا أحد يمد يده إليها بشكل منهجي:
• الغاز الطبيعي الذي يمكن أن يجعل العراق من كبار المنتجين عالميًا.
• الزراعة التي يمكن أن تحرر البلاد من استيراد الغذاء.
• النقل والموانئ والربط التجاري الذي يمكن أن يجعل العراق محورًا اقتصاديًا بين الخليج وإوربا.
• السياحة الدينية والتراثية التي لو أُديرت كما يجب لضاعفت واردات البلاد. لكن هذه الملفات تبقى رهينة نزاعات السياسة وغياب الإرادة الموحدة.
ما المطلوب لنهضة عراقية حقيقية؟ لا يمكن للعراق أن ينهض دون إصلاح جذري في بنية الدولة والحكم:
1. توحيد مركز القرار السياسي لأن الدولة بلا قرار واحد تبقى عاجزة مهما تغيرت الوجوه.
2. إبعاد الأحزاب عن المؤسسات التنفيذية ليكون الموظف موظف دولة، لا موظف حزب.
3. تنويع الاقتصاد والتخلص من ريع النفط لأن دولة تقوم على مورد واحد تبقى رهينة اضطراباته.
4. إصلاح النظام الإداري ومكافحة الفساد المؤسسي وليس الاكتفاء بحملات إعلامية.
5. إعادة بناء السياسة الخارجية وفق المصلحة الوطنية لا وفق مصلحة الأطراف. خاتمة انتخابات 2025 قد تكون قد أعادت تشكيل المشهد السياسي، لكنها لم تغيّر عمق الأزمة. فالعراق لا يحتاج إلى انتخابات جديدة بقدر ما يحتاج إلى عقد سياسي جديد، يضع الدولة فوق الأحزاب، والمواطنة فوق الهوية الطائفية، والتنمية فوق الخطاب الانتخابي.
ومهما اختلفت النتائج أو تغيرت الوجوه، يبقى السؤال الحقيقي: هل نملك الإرادة لصنع مستقبل مختلف، أم سنبقى ندور في الحلقة ذاتها؟ ذلك هو التحدي الحقيقي للعراق في السنوات القادمة