بقلم: الدكتور محمد مرعي الخزاعي
من يقرأ الخريطة الإقليمية بعين تحليلية، سرعان ما يدرك أن العراق لم يعد، منذ 2003، ساحةً عادية ضمن ساحات الشرق الأوسط، بل أصبح بيضة القبان في معادلة التوازن الإقليمي.
هذه العبارة لم تعد توصيفًا مجازيًا، بل باتت حقيقة جيوسياسية تُقرّ بها واشنطن وطهران وتل أبيب على حد سواء، وإن اختلفت أوجه الاستراتيجية تجاهها. فالعراق، بحكم موقعه الجيوسياسي المتداخل مع المشرق والخليج وتركيا وإيران، وثرواته الطبيعية، وتركيبته الديموغرافية، لم يعد ممكناً عزله عن ملفات الإقليم الكبرى، بل أصبح جزءاً أساسياً من المعادلة، سواء كفاعل أو كمجال تنازع.
▪ الضغط الأمريكي: الهيمنة الناعمة عبر الاقتصاد
رغم انسحابها العسكري الظاهري في 2011، لم تتخلَّ الولايات المتحدة عن أدواتها داخل العراق، بل انتقلت إلى ما وصفه الباحث Douglas A. Ollivant بـ"الهيمنة الاقتصادية المرنة"، حيث تتحكم واشنطن بمجالات حيوية، من بينها نظام التحويلات المالية (SWIFT)، وملف العملة الأجنبية، والبنك المركزي العراقي. أوليفانت، في تقريره لمؤسسة New America عام 2023، أكد أن واشنطن "لا تسعى فقط لحماية مصالحها، بل لتقويض النفوذ الإيراني دون الدخول في صدام مباشر".
▪ التوازن الأمريكي – الإيراني: شراكة اضطرار لا تحالف اختيار
في الوقت الذي تحاول فيه الولايات المتحدة الحد من النفوذ الإيراني، تبدو طهران قد عمّقت وجودها في العراق عبر شبكة حلفاء سياسيين وفصائل مسلحة. Michael Knights، الباحث في معهد واشنطن، يشير إلى أن إيران تمارس "نفوذًا عضويًا متجذرًا في المؤسسات العراقية، يتجاوز الأيديولوجيا إلى التنظيم العسكري والاقتصادي".
▪ النفوذ الإيراني: من العقيدة إلى القرار
إيران، بقراءة الباحث Tal Beeri (INSS – تل أبيب)، تعتبر العراق حلقة مركزية في مشروعها الإقليمي. ليس فقط لأنه عمق استراتيجي جغرافي، بل لأنه ساحة تمكنت فيها من بناء "ممر آمن" يمتد من طهران إلى دمشق وبيروت. وقد أشار التقرير الصادر في كانون الثاني 2023 إلى أن بعض المناطق في العراق مثل جرف الصخر أصبحت مواقع تخزين إستراتيجي للصواريخ والطائرات المسيّرة.
▪ المخاوف الإسرائيلية: من المراقبة إلى الضربات
إسرائيل من جهتها لا تغفل العراق، وتتابعه كساحة تهديد محتملة، كما يصفها الباحث Eyal Zisser. وتخشى تل أبيب من أن يتحول العراق إلى قاعدة خلفية لحرب الجبهات المتعددة، خاصة إذا نشبت مواجهة مع إيران. ▪ العراق: ساحة صراع أم جائزة جيوسياسية؟
السؤال الأهم الذي يفرض نفسه: هل ما يزال العراق مجرد ساحة نزاع، أم تحوّل إلى جائزة استراتيجية تتنافس القوى الكبرى على الظفر بها؟ يرى الباحث Henry Barkey (CFR) أن "من يُمسك ببغداد، يتحكم بخارطة التأثير في الشرق الأوسط". ▪ القرار السيادي وتداول السلطة: معضلة الداخل
لكنَّ كل هذا التحليل يبقى رهين سؤال داخلي: هل يمتلك العراق قراره السيادي فعلاً؟ تُظهر الوقائع السياسية أن الدولة العراقية تعاني من تداخلات مؤسساتية، وتضارب في الولاءات، وتعدد في مراكز القرار.
وفي هذا السياق، أصدرت المحكمة الاتحادية العليا العراقية في 30 أيار 2023 قرارها المرقم 60/اتحادية/2022، وجاء فيه: "إن الشعب بكافة قومياته وأديانه ومذاهبه هو مصدر السلطات، ويتم تداول السلطة سلمياً عبر الوسائل الدستورية، في ظل قرار وطني مستقل."
▪ خاتمة
العراق يقف اليوم على عتبةٍ حرجة: إما أن يُعاد إنتاجه كفاعل إقليمي، أو يبقى ملعبًا لصراعات الآخرين. وتحقيق الخيار الأول يتطلب أولًا ترميم السيادة الوطنية من الداخل، وتحصين مؤسسات الدولة، واعتماد تداول سلمي فعلي للسلطة، لا يخضع للتسويات الخارجية.