بقلم — نصير العلي
أفاد بيان صادر عن البنك المركزي العراقي أخيراً أن حجم الدين الداخلي ارتفع إلى نحو 91 تريليون دينار عراقي، بينما بلغ الدين الخارجي حوالى 54 مليار دولار، وأن قيمة السندات العراقية المقيدة في الولايات المتحدة تُقدَّر بنحو 11 مليار دولار (وفق نص البيان الذي أطلعنا عليه).
هذه الأرقام يجب أن تُقرأ دائماً في سياق حجم الاقتصاد الكلي حتى نفهم خطورة الوضع وحجم المساحة المتاحة للحلول.
وفق تقديرات صندوق النقد الدولي، وصل إجمالي الناتج القومي للعراق عام 2024 إلى نحو 274.6 مليار دولار أمريكي—رقمٌ يعطينا مرجعية ضرورية لحساب نسب الدين إلى الناتج وفهم قابلية الخدمة والضغط المالي.

أولاً: تشخيص موجز للمشكلة
1. عجز مالي بنيوي — الموازنة العراقية لعامَي 2023–2024 عُرضت في ظل تبعات تضخم المصروفات الجارية (الأجور والتحويلات) وانخفاض فعّالية الإيرادات غير النفطية، ما أنتج عجزاً كبيراً متكررًا لا يمكن تغطيته بالاقتراض وحده من دون دفع تبعاته على الاستدامة المالية. هذا ما أشار إليه البنك المركزي حين قال إن «عجز الموازنة كبير ولا يمكن تغطيته بالاقتراض».
 2. اعتماد على النفط — أكثر من 90% من موارد الدولة تأتي من مبيعات النفط؛ تقلبات الأسعار وكلف الإنتاج والالتزامات المالية الدولية تجعل الاقتصاد حساساً جداً لتذبذب الإيرادات. 
3. ضغط الدين المحلي — الاقتراض الداخلي (إصدار سندات وأذون وسحب من المصارف) يرفع تكلفة الاقتراض، وقد يختنق القطاع المصرفي عن تمويل القطاع الخاص إذا استمر تحول الادخار نحو شراء أدوات الدولة.
 4. مساحة سياسية وإصلاحية محدودة — الإصلاحات المطلوبة (إصلاح الأجور، ضبط التوظيف الحكومي، إصلاح الضرائب) سياسية واجتماعية حسّاسة، وتحتاج قراراً سياسياً قوياً وموازين اجتماعية مدروسة. 
ثانياً: هل فشلت السياسة النقدية أم المالية؟الجواب المختصر: الفشل الأكبر مسؤولية السياسة المالية، لكن السياسة النقدية لم تكن بمعزلٍ عن القيود.
• السياسة المالية أُنهكت بالإنفاق الجاري المتضخم (أجور، معاشات، دعمات غير مستهدفة)، وبتراجع الإيرادات غير النفطية، وكذلك بتأخّر إصلاحات ضريبية وهيكلية كانت مطلوبة منذ سنوات. هذه أسباب تقود مباشرة إلى عجزٍ يحتاج إلى اقتراض داخلي وخارجي متزايد. IMF أوضح الحاجة إلى ضبط الإنفاق وإصلاح موازنة الأجور والحوكمة المالية. 
• السياسة النقدية تعاملت في ظل «هيمنة مالية»—أي أن الإجراءات النقدية تقيدت بمحاولات تمويل الخزينة وحماية استقرار سعر الصرف والاحتياطيات. المركزي نجح نسبياً في المحافظة على احتياطيات كبيرة (حوالي 100 مليار دولار في نهاية 2024)، ما وفر رداءً خارجيًا، لكنه لم يتمكن من تعويض الخلل الهيكلي الناتج عن السياسة المالية. لذا النقدية لم تفشل جذرياً بقدر ما كانت مقيدة وظيفياً. 
ثالثاً: معالجات عملية ومقترحات استراتيجية ؛كمتابع للشؤون النقدية والمالية في العراق ،أقترح استراتيجية مركّزة قصيرة ومتوسطة وبعيدة المدى، قابلة للتنفيذ ضمن سقفٍ سياسي ومؤسساتي واقعي:
أ. إجراءات فورية (0–12 شهرًا)
1. إعلان خارطة طريق للترشيد المالي: تجميد التوظيف غير الضروري، ترشيد النفقات التشغيلية، ومراجعة عاجلة للعقود والمشتريات الحكومية. (تخفيض العجز يوفر حاجات الاقتراض).
2. إعطاء أولوية لسداد الدين الخارجي ذي التكلفة الأعلى والتفاوض لإعادة جدولة شريحة من الدين المحلي قصيرة الأجل لتخفيف ضغوط السيولة على البنوك. (التركيز على مزيج من إعادة التمويل وتمديد آجال الدين).
 3. إطلاق برامج مؤقتة مستهدفة لحماية الفقراء أثناء إجراءات التقشف — كي لا يتحول الإصلاح إلى أزمة اجتماعية.
ب. إصلاحات هيكلية متوسطة المدى (1–3 سنوات)
1. إصلاح منظومة الأجور والوظيفة العامة: اعتماد آليات انضباط للرواتب وتدرجات واضحة وربط التوظيف بالحاجة والكفاءة. IMF يحدد هذا كأولوية لتخفيض العبء على الموازنة.
 2. توسيع قاعدة الإيرادات غير النفطية: إصلاح ضرائبي تدريجي (ضريبة دخل تصاعدية، ضريبة على أرباح الشركات، تحسين تحصيل الرسوم الجمركية وضبط التهرب).
3. تطوير سوق رأس المال المحلية وإصدار أدوات دين طويلة الأجل (سندات وسُكوك إسلامية) بآجال مناسبة لاستيعاب التمويل الاستثماري بدل الاعتماد على أدوات قصيرة الأجل تستهلك سيولة البنوك. (القيمة المسجلة من السندات في الخارج تُعد مورداً يجب إدارته وليس عبئاً لا محيد عنه). 
ج. بنى طويلة الأمد (3–10 سنوات)
1. تنويع الاقتصاد: إعطاء دفعة قوية للاستثمار في القطاعات غير النفطية — كهرباء، زراعة، صناعات تحويلية، بنية تحتية مربوطة بشراكات دولية.
2. إصلاحات مؤسساتية: مكافحة الفساد، تحسين الشفافية العامة في العقود والمناقصات، تحديث إدارة الدين العام بقاعدة بيانات موحدة وسياسات واضحة للاتفاق على الضمانات والالتزامات. IMF يوضّح أن الإصلاح المؤسسي سيضاعف أثر النمو. 
رابعاً: مَن يدير المعالجات؟إدارة ملف الدين والإصلاح المالي يحتاجان قيادة سياسية مستقرة واتفاقاً وطنياً على الأولويات: ضبط الإنفاق، حماية الفئات الهشة، وتنفيذ إصلاحات هيكلية ترافقها لمعالجة البطالة وتحسين البيئة الاستثمارية. الاحتياطي الأجنبي الكبير اليوم يمنح العراق نافذة تكفي لتنفيذ إصلاحات تدريجية ومنظمة؛ إن ضيّعناها بالاقتراض غير المبرر أو بالتأجيل الطويل، فستتقلص هذه النافذة سريعاً. بيانات البنك المركزي وصندوق النقد تؤكد أن المسار متاح لكن يتطلب جرأة سياسياً وخبرة تنفيذية اقتصادياً.