05A2EDD17376135DD5B5E7216D8C98DB
20 Apr
20Apr


محمد عبد الجبار الشبوط 

قبل ايام كنت في زيارة للاخ الانيق المفكر حسين درويش العادلي، في شقته الجميلة حيث دار بيننا حديث عميق عن القيم وتطورها عبر الزمن. والحديث الملهم مع العادلي يوحي بالكثير من الافكار التي حملتها معي لتنتج المقال الاولي التالي.في سياق البحث عن أساس القيم الحضارية العليا التي توجه سلوك الإنسان وتبني المجتمعات الراقية، يثور سؤال فلسفي محوري: هل يدرك العقل هذه القيم بذاته، أم أن الدين وحده هو القادر على تعريفنا بها؟ وهل القيم موجودة بشكل موضوعي في العالم أو كامنة في الطبيعة الإنسانية قبل أن يعيها العقل أو تُعلنها الرسالات السماوية؟

العادلي قال ان القيم تدرك بالعقل، فنحن من القائلين بالحسن والقبح العقليين. واتفق معه في هذا المجال بطبيعة الحال. فكلنا من مدرسة فكرية واحدة. الإنسان، بوصفه كائنًا عاقلًا، يمتلك القدرة على إدراك معاني العدل، الحرية، الكرامة، الصدق، وغيرها من القيم التي تُعدّ حجر الأساس لكل مجتمع حضاري. فالتجربة الإنسانية الممتدة، عبر التأمل والعقل والملاحظة، كشفت عن حاجة الإنسان إلى هذه القيم كي ينظم حياته ويدير علاقاته ويحقق سعادته.

 من هنا يمكن القول إن العقل قادر على الوصول إلى القيم العليا من خلال النظر العقلي الحر والتجربة الحياتية الواعية.غير أن الدين يلعب دورًا مهمًا في تأكيد هذه القيم وترسيخها. 

فالقيم التي قد يُدركها العقل بشكل نظري، يأتي الدين ليمنحها عمقًا روحيًا، ويلبسها طابعًا مقدسًا يجعل الالتزام بها التزامًا أخلاقيًا وروحيًا في آن.

 الدين لا يخترع القيم من عدم، لكنه يُظهرها ويمنحها سلطة معنوية وأخلاقية كبرى، ويضعها في إطار غائي يتصل بالعلاقة بين الإنسان وربه.أما من حيث وجود القيم، فيمكن القول إنها ليست مفروضة من الخارج ولا متخيلة، بل هي كامنة في البنية الوجودية للإنسان، موجودة بالقوة لا بالفعل potentiality .

 هي إمكانات في الطبيعة الإنسانية، تتحقق حين يعيها الإنسان ويفعّلها في سلوكه. فقبل أن تُكتشف القيم، هي موجودة ضمنيًا في الضمير الإنساني، وفي حاجته العميقة إلى النظام والعدل والمعنى.وبالتالي، فإن تقدم المجتمعات، سواء كانت متدينة أو غير دينية، مرهون بإدراك هذه القيم وتفعيلها في حياة الناس، سواء أدركوها عبر العقل أو تبنوها من تعاليم الدين. العقل والدين كلاهما يشتركان في كشف هذه القيم، لكن أحدهما لا يغني عن الآخر. 

وبهذا التفاعل الخلاق بين العقل والدين، تتجلى القيم الحضارية العليا كمرشد للمجتمع نحو العدالة والنهضة.و القيم تتطور عبر التاريخ، كما يتطور إدراك العقل لها. وهذا التطور لا يعني بالضرورة تغيّر القيم ذاتها من حيث الجوهر، بل يعني تغير فهم الإنسان لها، وتوسّع تطبيقاتها، وتعمق تجلياتها في الحياة الاجتماعية والفردية.

 القيم الكبرى مثل الحرية، العدالة، الكرامة، المساواة، الرحمة... ليست جديدة، لكنها لم تُفهم أو تُطبَّق دائمًا بنفس الطريقة. 

ففي عصور سابقة، مثلًا، لم تكن الحرية السياسية أو حقوق المرأة مفهومة كما نفهمها اليوم. لم يكن مفهوم المساواة شاملاً لكل البشر، بل كان يُقصَر على طبقات أو جماعات معينة. 

مع مرور الزمن، ونتيجة تراكم الخبرة الإنسانية والتفاعل مع الأزمات والصراعات، بدأ الإنسان يوسّع إدراكه لهذه القيم ويُطالب بتجسيدها في مؤسسات وقوانين.العقل البشري ليس كيانًا جامدًا، بل هو كيان تراكمي يتغذى من التجربة التاريخية والفكرية والعلمية. فالعقل في القرن الواحد والعشرين يختلف في قدرته التحليلية والاستنتاجية عن عقل الإنسان في العصور الوسطى. لذا، فإن إدراك العقل للقيم يتطور عبر:

1. التجربة الاجتماعية: مع كل مرحلة تاريخية، يواجه الإنسان تحديات جديدة تدفعه لإعادة التفكير في معنى القيم. مثلًا، تجربة الحروب العالمية جعلت البشرية أكثر حساسية تجاه قيمة السلام.

2. التراكم المعرفي: تطور الفلسفة، علم الاجتماع، علم النفس، والعلوم السياسية ساعد في تعميق فهمنا للقيم، وبيّن الروابط بين القيم والازدهار الإنساني.

3. الاحتكاك الثقافي: التفاعل بين الحضارات والثقافات المتنوعة يفتح آفاقًا جديدة لفهم مشترك أو موسّع للقيم، ويقلل من الرؤية الأحادية لها.

4. التقدم التكنولوجي والإعلامي: وسائل الاتصال الحديثة جعلت من القيم قضايا نقاش عام، فتبلورت مفاهيم جديدة مثل العدالة الرقمية أو الخصوصية المعلوماتية وهي امتدادات معاصرة لقيم العدالة والحرية.

والخلاصة، ان القيم ليست نسبية بالكامل، ولكن إدراكنا لها وتطبيقنا العملي لها يتطور مع تطور الحضارة. وكلما ازداد وعي الإنسان وارتقت مؤسساته، كلما أصبحت القيم أكثر وضوحًا وتجليًا في حياة الأفراد والمجتمعات.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2025 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن