منتصر صباح الحسناوي
منذ فجر التأريخ كان للعولمة الثقافية دور في اندماج الهويات بين الإنسان والآخر، في السوق والمعبد، في السرد والمعتقد، في التجارة والمراسلة.بلاد الرافدين شكّلت بيئةً خصبة لنمو العولمة الثقافية بصيغتها التاريخية ومثلت أقدم صيغ هذا التفاعل حين كان المكان ممرّاً بين حضارات ومُلتقى القوافل ومُلتجأً لأقوامٍ جاؤوا يحملون لغاتهم وآلهتهم وعاداتهم، ليجدوا في مدن سومر وأكد وبابل وآشور فضاءً يستوعب ويُعيد التشكيل.حيث كانت الهوية الثقافية تُبنى بتفاعل الرموز وتراكمها بعيداً عن الصراعات والالغاء.
والسؤال الذي نحاول ملامسته هنا: كيف أسهمت هذه الحضارات الكبرى في دمج الهويات، وتوليد هوية مركّبة، حافظت على جذورها؟
في أرض سومر، بزغ فجر الكتابة ومعها بزغت أول محاولة لتنظيم العالم الرمزي للإنسان إذ كانت بوابة عبور نحو تخيّلٍ مشترك للعالم، يُدوَّن على ألواح الطين وينتقل من جيل إلى جيل. ومن هذه اللغة وُلِدت ملحمة جلجامش التي قدّمت أسئلة الوجود والموت والصداقة بروح إنسانية عابرة للعصور.في مدن مثل أور ولكش، التنوّع السكاني والأصول المتعددة يتقاسمون الأسواق والطقوس، ويجتمعون حول معابد لا تُقصي أحداً بل توحد ولعل نيبور خير شاهد على ذلك على مر العصور .
أدركت تلك الحضارات على الرغم من بداياتها أن المدينة لا تزدهر إلا حين تكون تعددية.
مع لوكال زاكيزي ثم سرجون الأكدي، دخلت بلاد الرافدين مرحلة جديدة من التفاعل الثقافي، حين قامت أول إمبراطورية كبرى تضم شعوباً غير متجانسة "أكد" التي نظمت التنوع بنظام لغوي وإداري موحّد، فانتشرت اللغة الأكدية كلغة إدارة ودبلوماسية في المشرق القديم.
وعلى الرغم من التمايز بين السومرية والأكدية، فإن ما حدث لم يكن إقصاءً وانما تداخلاً، إذ ظهرت نصوص تُكتب بإحدى اللغتين وتُفهم بالأخرى، وتمّت ترجمة الأساطير والمفاهيم بين الثقافتين، لتنتج سرديات هجينة تجتمع فيها شخصيات وآلهة من منابع مختلفة.كما كان للتجارة وفتح الطرق اثر في نقل الرموز والمعاني والتفاعل الثقافي واعادة صياغتها في سياق جديد او كما نسميه دمج للهويات.
حين ظهرت بابل، كان هناك انتقالة اخرى للسعي في ان تكون مركزاً معرفياً وثقافياً يتجاوز حدودها. ففي مكتبة بابل، وُجدت نصوص مكتوبة بلغات شتى بعضها "مترجم " من السومرية والأكدية، وبعضها مستورد من حضارات الجوار.شريعة حمورابي، بوصفها أقدم قانون مكتمل معروف خُصِّصَت لمجتمع متعدد، تسكنه أقوام من طبقات وهويات مختلفة، وقد شكّل هذا القانون إطاراً لهوية قانونية مشتركة تسمح للجميع بالعيش تحت منظومة واحدة.اما ازدهار علوم الفلك والتنجيم في بابل كان نتاج لتفاعل طويل مع معارف جاءت من الهند وفارس والأناضول، وكان العالم البابلي يعيد ترتيب هذه المعارف داخل بنية رمزية جديدة، تلبّي حاجات المجتمع المحلي وتحتفظ بجذورها الخارجية.
أما آشور، فقد مثّلت المرحلة التي بلغت فيها العولمة الثقافية بعداً سياسياً وأيديولوجياً واسعاً، من خلال التوسّع العسكري. غير أن الآشوريين لم يكتفوا بالغلبة وانما سعوا إلى إدماج الرموز الثقافية للشعوب المفتوحة وإعادة صياغتها ضمن سرديتهم الإمبراطورية.ففي قاعات نينوى وخورسباد، نجد نقوشاً تحمل رموزاً مصرية، وزخارف من فارس، وأزياء من الأناضول، كلها أُعيد توظيفها لتمثّل قوة الدولة الآشورية الجامعة. في الوقت نفسه تم الحفاظ على آلهة ومعابد المدن التي احتلتها، وتم تبنّيها ضمن بنية الدولة الجديدة، لا كأعداء وانما كأعضاء في سردية النصر.وقد أنشأ ملوك آشور أرشيفات ضخمة باللغتين الأكدية والسومرية، ما يدل على وعيهم بقيمة التنوع اللغوي والثقافي، وسعيهم لتوثيق التعدد لا طمسه.
المتأمل بهذا الإرث الحضاري يدرك أن العولمة الثقافية لم تكن حالة طارئة بقدر ما هي جزء أصيل من البنية العراقية.
لقد أسهمت هذه الحضارات في إنتاج هوية مركّبة، غير قابلة للاختزال في عنصر واحد غير انها قادرة على التجدد والتكيف.
وفي زمننا المعاصر، قد لا نكون أمام التحدي ذاته، لكن جذورنا القديمة تذكّرنا بأن التفاعل مع العالم ليس تهديداً وانما فرصة لإعادة اكتشاف أنفسنا من جديد.