منتصر صباح الحسناوي
العَلَگ، تلك الخرقة الخضراء التي تُعقَد عليها الآمال، كانت ولا تزال جزءاً من واقع التراث الشعبي المتشابك مع المعتقد الديني، على الرغم من أنها بدت لنا في طفولتنا ظاهرة حيّة إلا أنها اليوم تنحسر تدريجياً. سألت أولادي: "تعرفون شي اسمه العَلَگ؟"، أحدهم أجاب بثقة "نعم " ، الآخر هزّ رأسه ولم يعرف. لكن العادة ما زالت قائمة في أماكن يُنظر إليها بوصفها مراكز للتبرّك أو الدعاء أو الوفاء بالنذر، منتشرة في العراق، وتُعرف شعبيّاً بـ"العَلَگ" وهي عادة تتمثّل بربط قطعة قماش صغيرة – غالباً ما تكون خضراء – على شبّاك أو باب لمقام أو جذع نخلة أو غصن شجرة أو باب يُعتقد أنّ له صلة بالبركة وأحياناً على أماكن غريبة تولّد الاعتقاد حولها كـ "عمود إنارة، آلة قديمة، سياج مهمل…."
هذه الممارسة على بساطتها الظاهرة تنطوي على دلالات رمزية عميقة وتكشف جانباً حيّاً من التديّن الشعبي المتداخل مع الموروث الثقافي، إذ يتحرّك الدافع الداخلي للفعل دون تعليم أو توجيه. هي أشبه بدعاء فطري يخرج حين تضيق الأمور أو دمعة تهطل دون مقدمات. ما من فتوى تستند إليها هذه العادة وما من طقس صريح يفرضها، لكنها تواصل الحياة لأنّها تنبع من شعور حقيقي ولأنّ الإنسان يميل إلى تمثيل ما يعجز عن قوله.
العَلَگ ليست وليدة هذا العصر، إذ تشير الشواهد التاريخية إلى أن أهل وادي الرافدين اعتادوا ربط الخيوط أو التمائم أو القطع القماشية في زوايا المعابد أو على الأشجار المقدّسة أملاً في جلب الحظ أو دفع الضرر أو ببساطة لوضع رجاءٍ ما في مكان يُعدّ مباركاً. لم تكن الممارسة جزءاً من عقيدة محدّدة بل فعلاً صامتاً يُشبه المناجاة، ووسيلة للتعبير عن أشياء لا تُقال بالكلام. هذه العادة، التي كانت جزءاً من طقوس السحر الرمزي الأبيض لم تنتهِ بتغيّر أنماط التدين بل استمرّت في الحياة اليومية، وتكيّفت مع السياق الروحي للناس حتى باتت جزءاً من التديّن الشعبي العراقي.
وليس العراق وحده الذي احتفظ بهذه العادة، ففي ثقافات متعدّدة يظهر سلوك مشابه يكاد يكون توأماً رمزياً للعَلَگ الأخضر. في روما ما زالت نافورة تريفي تستقبل مئات العملات المعدنية يومياً، يرمونها الزوّار مع أمنيات لا تُقال. في باريس تُعلّق الأقفال على الجسور وتُلقى مفاتيحها في النهر، في طقس حبٍّ رمزيٍّ لا يُنظّم، لكنه يتكرّر بحميمية لافتة. في كوريا الجنوبية تُعلّق الأقفال الملوّنة على أبراج المدينة، علامةً على الوفاء والارتباط. في الهند تُربط الأقمشة والخيوط على أشجار البانيان قرب المعابد الهندوسية طلباً للشفاء أو البركة. حتى الكنائس الشرقية تعرف هذه الممارسة إذ تُربط الأوشحة الصغيرة على الأبواب أو الأيقونات.
هذه الأمثلة تُظهر ميلاً إنسانياً مشتركاً لتحويل المشاعر الكبيرة إلى رموز صغيرة، تُرتبط في أماكن لتمنح شعوراً بالقرب من قوة عليا أو معنى أكبر من اليومي والعابر. الإنسان حين يرجو لا يكتفي بالكلام وانما يسعى إلى أن يترك أثراً محسوساً يضع فيه شيئاً من روحه ويمضي.
وهكذا تنشأ الرمزية "لا لتُفسّر" بل لتُمارس وتعمل في عمق النفس ويظهر " العَلَگ " بوصفه جزءاً من تكوين الهوية التراثية التي تتصل بجذور قديمة.وحين يكون الموروث حيّاً تبقى الهوية متوهّجة، وتستمر الرغبة في المعنى بلا انقطاع. هذه الخرقة الخضراء "إن قُبل دعاؤها أم لم يُقبل" فقد حملت في لحظة ربطها شعوراً لا يُنسى، وهذا الشعور هو ما يمنحها قيمتها وسبب استمرارها وقدرتها على التجدّد في كل جيل.
العَلَگ لا يُقرأ كخرافة ولا يُحاكم كظاهرة عقلية أو غير عقلية، هو أحد أشكال التعبير العميق حين يلتقي الإنسان بالرمز ويترك فيه شيئاً من رجائه. وإن أردنا أن نقرأه بعين منصفة، فعلينا أن نراه بوصفه موروثاً جميلاً تمسك به ذاكرتنا وممارسةً روحية ما زالت تهمس باسم الأمل في لحظات الحاجة.