05A2EDD17376135DD5B5E7216D8C98DB
15 Jun
15Jun


 د حسين عبيد شراد 

بين الهتاف والشتيمة… ضاعت القراءة


ما بين من يهتف باسمه على رؤوس المجلات الثقافية، ومن يشتمه على أطراف المنابر الإلكترونية، تقف قراءة الغذامي حائرةً بين مدّاحٍ لم يقرأ، وساخرٍ لم يفهم. فكلا الفريقين — المُروّج والمُتهكّم — اجتمعا في شيء واحد: السطحية. فذاك الأول يلهث خلف مصطلحاته، ناقلًا إياها كما تُنقل الأسانيد بغير فهم، حتى إذا قيل له: ما النسق؟ تلعثم أو حشر “اللاشعور الجمعي” في كل سياق، كأنما هو المفتاح السحري لكل نص.

 وأما الثاني، فيسخر من لغته أو تصنيفاته من غير أن يحيط بمقاصدها أو بنيتها، ويظن أن الغمز كافٍ لإبطال المفهوم.


لكن الطامة الكبرى ليست في هؤلاء فحسب، بل في من يتصدّر شرح المشروع وكأنّه أحد بناته، وهو لم يتجاوز بعدُ فهم المصطلحات المؤسسة له، ولا وعى تحوّلاته بين كتاب وآخر. 

فكم من “شارحٍ” لمشروع الغذامي نصب نفسه ناقدًا أكاديميًا، وهو في حقيقته مكرّرٌ لادّعاءات سابقة، أعاد تدويرها بعبارات مزخرفة، دون أن يضعها على محك التفكيك أو يسائلها ضمن أفق معرفي صارم.

إن قراءة الغذامي لا تكون بتكرار عباراته، بل بالوعي الحاد بمستويات خطابه، والقدرة على التمييز بين ما يقوله، وما يسكت عنه.

 وما لم يتحقق هذا الشرط، فإن القارئ — مهما تشدّق بلقب أكاديمي — لن يكون إلا جزءًا من “الأنساق المتلبّسة” التي يدّعي تفكيكها.
لا يُختلف في أنّ الدكتور عبد الله الغذامي من أبرز الأسماء التي وُضعت في واجهة النقد الثقافي العربي، خصوصًا في سياق تحوّله من الشعرية إلى الثقافة.

 غير أنّ هذا التحوّل لم يكن دائمًا نابعًا من بنية نظرية صلبة أو مشروع معرفي متماسك، بل كثيرًا ما اتّسم بالتقلّب المفاهيمي، والتوظيف الانتقائي للمقولات الحداثية، مما يجعل من قراءة هذا المشروع ضرورة ملحّة لا بهدف الإشادة بل بغرض التفكيك.وفي هذا السياق، ظهرت مقالات كثيرة  عن  “عبد الله الغذامي ومشروعه من الشعري إلى الثقافي”، مثّلت نموذجًا لما يمكن تسميته بـ”الكتابة المروّجة” لا “النقدية”، في حين صدر عن الغذامي نفسه كتاب اللابس والمتلبس، فكان استئنافًا للنهج ذاته الذي يُراكم المفاهيم دون مساءلة، ويقتطع النصوص والمواقف من سياقاتها كما يُقتطع بيت شعري لإثبات معنى، في حين تؤكد الأبيات اللاحقة عكسه


أولًا: المقالة المروّجة… قراءة بلا وعي نقدي
أخطر ما يمكن أن يقع فيه قارئ مشروع ثقافي مثل مشروع الغذامي، هو التعامل معه بوصفه خطابًا ناجزًا لا إشكاليًا. وهذا ما وقعت فيه المقالة موضوع الحديث؛ إذ لم تُعمل أدوات التحليل، ولم تقف على تناقضات الانتقال الغذامي من النقد الأدبي إلى النقد الثقافي، بل نقلت أفكاره كأنها من المسلّمات. فالمفاهيم الأساسية التي يدور حولها خطاب الغذامي — كالنسق الثقافي، المؤلف النسقي، الأنساق المضادة — استُحضرت دون مساءلة، وظلّت بلا توطئة معرفية أو سياق إبستمولوجي، مما أفقد المقالة وظيفتها المفترضة كقراءة واعية[].


بل إنّ المقالة، في مواضع كثيرة، تعيد إنتاج خطاب الغذامي ذاته، وتتبنّى موقفه من دون أن تفكّك آلياته أو تُقابل تنظيراته بممارساته. لم تسائل الكاتبة — مثلًا — كيف يمكن لنظرية “سقوط النخبة”[3] أن تصدر عن ناقد أعاد إنتاج صور النخبة عبر لغته وموقعه وممارساته. كما لم تطرح سؤالًا حول آلية اشتغال “النسق” في خطاب الغذامي نفسه، الذي غالبًا ما يوجّه النقد إلى الآخر بينما يعفي ذاته من الفحص النسقي.


ثانيًا: “اللابس المتلبس”… تكرار المفهوم والتحايل المنهجي


أما كتاب اللابس المتلبس، فيُعدّ استئنافًا لأسلوب يرفع شعار الكشف بينما يكرّس التكرار. يبدأ الغذامي بتقسيم المشتغلين بالثقافة إلى “لابس” يُخفي الأنساق و”متلبس” يقع ضحية لها[]، لكنه لا يقدّم آلية يمكن الوثوق بها لتمييز أحدهما من الآخر. فالمفاهيم تُطرح بطريقة توحي بأنها أدوات صارمة، لكنها في الواقع تُستخدم بصورة انتقائية، دون تحديد دقيق للحقل الدلالي أو الإجراء التحليلي الذي تخدمه.


ويزداد الأمر التباسًا حين نجد أن الغذامي يختار نصوصًا “آمنة”، غالبًا أدبية، لتمثيل “النسق”، متجنبًا الخطابات السلطوية الأشد تمثيلًا للهيمنة، كالديني والسياسي. 

هذا يشير إلى خلل بنيوي في مشروع يدّعي تعرية الأنساق بينما لا يجرؤ على الاقتراب من أشدّها فاعلية[5].

والأدهى أن التطبيق النقدي لديه يأتي مقطوعًا من سياقه، كأن يقتطع بيتًا شعريًا أو رأيًا لغويًا ليثبت به أطروحته، ثم يغفل تمامًا ما بعده أو قبله، مما يوقع القارئ غير الواعي في شرك القراءة الموجّهة.
وهذه الآلية شبيهة بقراءة أُحادية للقصيدة: بيت منها يُجعَل دليلاً على الذكورية أو النسقية، بينما تتابع الأبيات في الاتجاه المضاد.


ثالثًا: إعادة إنتاج السلطة… باسم تفكيكها
رغم تبنّي الغذامي لغة تنتمي إلى حقول التفكيك والتحليل الثقافي، فإنّ خطابه في النهاية يُعيد إنتاج سلطة المثقف العارف الذي يَفترض موقعًا خارج الأنساق، في مقابل جمهور مغيَّب ومثقفين متورطين.

 وهذا التمثيل ينقض أساس المشروع الثقافي نفسه، الذي يُفترض أن يكون نقدًا للذات قبل أن يكون إدانة للآخر.

فالغذامي لا يقارب نفسه كفاعل نسقي، بل يكتب من علٍ، بلغة تهيمن لا تُساءل، وتفكك الآخر دون أن تسمح بتفكيكها. 

والتعميمات التي يطرحها — مثل “العرب شعب شفاهي”[]، أو “النسق الثقافي يقمع المرأة دائمًا تنتمي إلى لغة الإيديولوجيا لا إلى مفردات التحليل الثقافي الذي يستند إلى سياق، وتاريخ، وممارسة.
وهنا يتضح أنّ “النقد الثقافي” الذي يمارسه ليس سوى خطابة مموّهة، تنزع إلى بناء سردية سلطوية مضادة باسم التحرير، لكنها — في بنيتها العميقة — تعيد ترسيخ الثنائية ذاتها التي يدّعي المشروع نقدها: خطاب/مضاد، سلطة/ضحايا، نسق/فرد.


كلٌّ من المقالة المكتوبة عن الغذامي، وكتابه الأخير اللابس والمتلبس، يُعبّران عن أزمة مركبة في الخطاب الثقافي العربي: أزمة النقد الذي يتحوّل إلى خطاب تبريري، وأزمة المفهوم الذي يتحوّل إلى شعار.فبدلاً من أن يقدّم الغذامي أدوات لتحليل الثقافة العربية، انتهى إلى فرض شبكة مفاهيمية مغلقة، لا تقبل إلا ما يثبت مقولاته سلفًا.

 وإذا لم يُفتح هذا المشروع على فحص معرفي صارم، فسيظل يعيد إنتاج ذاته، كما يعيد النظام الثقافي الذي يدّعي نقده.


تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2025 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن