13 Dec
13Dec

في عنفوان البدايات، قرأتُ كتباً منحتني اطمئناناً كبيراً ويقيناً سريعاً. 

تشكّلت لديّ قناعات أدافع عنها بشراسة المتبنّي لها وربّما بحماسة تفوق حماسة من كتبها. القراءة آنذاك كانت تثبيتاً لما استقرّ في الداخل بوصفه حقيقةً مطلقة.


تذكّرتُ تلك المرحلة وابتسمت، عندما شاهدتُ مقطعاً من فيلم "المحطة الأخيرة" يظهر فيه مساعد ليف تولستوي الذي كان يشكو له صراعه في مقاومة علاقة عاطفية، محاولاً تنزيه نفسه ممّا اعتبره ضعفاً. 

سأله تولستوي عن سبب هذا العناء، فأجابه: امتثالاً لآرائك، عندها قال له تولستوي ببساطة:"أنا لا أفعل دائماً ما أكتب".


في هذه الجملة القصيرة يتكثّف الكثير ممّا نغفله في علاقتنا بالقراءة. النص ليس أمراً تنفيذياً والفكرة ليست تعهّداً أخلاقياً وما يُكتب لا يُقصد به دائماً أن يُتَّبع حرفياً.

 القراءة التي تتعامل مع الأفكار بوصفها تعليمات تفقد معناها وتتحوّل من أفقٍ للفهم إلى عبء.


نحبّ أن نشجّع على القراءة، ونميل إلى التعامل معها بوصفها طريقاً مضموناً إلى المعرفة، غير أنّ التجربة تقول إنّ القراءة بذاتها لا تضمن هذا المسار، فهي أداة وما تنتجه يتوقّف على الطريقة التي نقرأ بها وعلى استعدادنا لمساءلة ما نطمئن إليه سريعا.القناعة، في ظاهرها حالة مريحة، فكرة تستقر في الداخل وتمنح صاحبها شعوراً بالثبات كأنّها أرض صلبة بعد ارتباك طويل، لذلك يدافع الناس عن قناعاتهم كما يُدافعون عن بيوتهم بدافع الأمان وبظنٍّ قريب من الحقيقة بوصفها شكلاً من أشكال الانتماء. 

لكنَّ الصواب نادراً ما يُقيم في مناطق الراحة، الفكرة التي لا تحتمل الاهتزاز تبقى ساكنة وما لا يُختبَر لا ينمو.


كثيرون يظنّون أنَّ الخروج من هذا الإطار يكون بقراءة "النقيض" لكنّ الانتقال من فكرة مغلقة إلى فكرة مناقضة لا يعني بالضرورة تحرّراً، أحياناً نبدّل القناعة ونُبقي الآلية ذاتها: يقين جديد وحماسة جديدة وحدود جديدة للأسئلة، الاختلاف يكون في المحتوى، لا في طريقة التفكير.


القراءة التي تُنتج معرفة حقيقية هي تلك التي تسمح بالشك، بوصفه فحصاًلا هدماً أو عداءً، الشك الذي يمنع القناعة من التحوّل إلى عادة ويحول دون تصلّب الفكرة إلى عقيدة غير قابلة للمساءلة.

 المفارقة أنَّ الشك الحقيقي لا يعيش دائماً عند المتردّدين، وإنما عند أصحاب القناعات العميقة. فمن يثق بفكرته يسمح لها بأن تُسائل ومن يؤمن بمعناه يعرّضه للاختبار.

من نتائج القراءة غير النقدية بروز قارئ واثق أكثر مما ينبغي، يقرأ قليلاً ويتحدّث كثيراً ويستعير اللغة قبل أن يمتلك الفهم، ليحلّ المصطلح محل المعنى والجدل محلّ التفكير. في هذه الحالة، تكون القراءة أقرب للصخب منها للمعرفة.


في المقابل، لا يمكن اختزال المعرفة في الكتب وحدها، التجربة الحياتية، بما تحمله من احتكاك ومراقبة وتراكم، تُنتج فهماً لا تصنعه القراءة دائماً. هذا لا ينتقص من قيمة الكتاب، لكنّه يعيده إلى موقعه الطبيعي "أداة من أدوات الفهم" لا مرجعاً نهائياً له.
لذا حين أكتب عن القراءة أفضّل أن أبدأ من احتمال الخطأ، لا لأنّ الخطأ فضيلة، بل لأنّ اليقين السريع غالباً ما يكون مكلفاً، فالشك لا يضمن الصواب دائماً لكنّه يقلّل من كلفة الخطأ، ويمنح العقل فرصةً للتراجع قبل الاصطدام.


فما لا يحتمل الشك، لا يُنجب صواباً.

ولهذا تبقى القراءة… محاولة، وقد أكون مخطئا

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2025 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن