د. محمد القريشي
في ١٣ مايس ١٩٤٠، وقف رئيس وزراء بريطانيا السابق و الكاتب والمفكر تشرشل ، أمام مجلس العموم والقى أول خطاب له بعد توليه رئاسة الوزراء أثناء الحرب العالمية الثانية، وقال فيه :"ليس لدي ما أقدّمه سوى الدم والكدح والدموع والعرق".
بهذه الكلمات القليلة والرصينة وضع ميثاق صمود بلده في اكثر حروب الكون ضراوة، بلا وعود كاذبة ولا آمال زائفة، بل باعتراف بالمعاناة و إيمان بالنصر.
وفي ٢٥ آب ١٩٤٤، وقف الرئيس الفرنسي السابق والمفكر ديغول في بلدية باريس ، والقى اول خطاب له بعد التحرير، وقال فيه:"باريس، باريس المهانة, باريس المحطمة, باريس الشهيدة, لكنها باريس المحرّرة…".
فانجز بكلمات مركزة دخلت التاريخ، أجمل وابلغ خطبه التي جمعت بين الشعر والنثر السياسي، وجسدت في الوقت نفسه، الوحدة الوطنية والكبرياء والانبعاث بعد المحنة، وأثرت في وجدان الشعب بعد محنة الاحتلال .
هنا يكمن سحر اللغة في الخطاب السياسي: حين لا تكتفي اللغة، بان تكون مجرد أداة تواصل او إقناع ، بل تتسامى لتغدو ، في ذاتها أحد أركان الفعل السياسي. تُبنى من خلالها الشرعية، وتُصاغ بواسطتها الرؤى، وتُوجَّه وفق مقاصدها الإرادات.
فطالما شكلت "اللغة الرفيعة" عبر التاريخ ، بما تحمله من دقة وجمال وهيبة، علامةً مميزة لرجال الدولة العظام، الذين وظفوا الكلمة كأداة للبناء والتنوير والموقف .
اللغة في السياسة عندما تكون صادقة، هي مرآة لمستوى الوعي والفكر الذي يحكم إدارة الدولة, وعندما ترتفع في صياغتها ومعانيها، ينتظم الفكر منظّمًا ويتماسك ويتسامى على الانفعال والفوضى.وهي بالنسبة لرجال الدولة الكبار ليست مجرد خطاب هادف للإقناع ، بل وثيقة مؤرخة ومؤشرة لعقل الأمة، ولهذا مثلت الكلمة بالنسبة لشيشرون وتشرشل وديغول وغيرهم، أداة القيادة الأولى وماثل "التعبير النبيل" في اثره وأهميته "القرار الصائب".
فالسياسي الذي يتحدث بلغة واضحة ومحترِمة للتاريخ والمستقبل، يرفع الذوق العام ويمنح شعبه فسحة للتأمل ومتابعة أفكاره ومنجزاته.في عبارة بليغة، رد زعيم الحزب الشيوعي الفرنسي السابق جورج مارشيه على سؤال صحفي مشكك حول تبعية الشيوعيين الفرنسيين إلى الاتحاد السوفيتي حينها، قائلا: " سأكون اول من يحمل السلاح للدفاع عن وطني ضد الغزاة الشيوعيين السوفييت، إذا حدث ذلك"! وكما تستمد الدولة قوتها من رصانة مؤسساتها، فهي تستمد هيبتها الرمزية من لغة المتخاطبين بشؤونها ، حيث يعكس الخطاب السياسي الرفيع احترام الدولة لذاتها ولمواطنيها.
وضع ديغول "الكلمة" في منزلة السلاح عندما لم يكن لديه سلاح يحارب به النازية، وكتب في مذكراته mémoire de le guerre ،( لقد كانت كلماتي سلاحي الوحيد ، ومن خلالها رفعت فرنسا من تحت الركام). وبلغة أقرب إلى القداسة منها إلى السياسة اليومية، خاطب ديغول شعبه،لأنه كان يعتبر فرنسا كيانًا روحيًا قبل أن تكون جهازًا إداريًا، فأكسب خطابه السياسي ، عمقا اخلاقيا، وابعده عن التبسيط الشعبوي الذي يختزل القضايا الكبرى في شعارات سطحية.
وتُرسِّخُ اللغةُ في عالم السياسة الحدَّ الفاصل بين السياسيّ العابر ورجل الدولة الحقيقي؛ فهي تفضحُ الأوّل حين يلجأ إلى الإثارة الآنية ويهبط بخطابه إلى مستوى الغرائز، وتمجّد الثاني حين يشحن كلماته بجرعاتٍ من الوضوح والأمل والصدق، إلى حدٍّ يجعل من لغته عقداً اجتماعياً مُلزِماً بالوفاء، لا مجرّد وسيلة إقناع.
حين تنحدر اللغة، يسهل على الديماغوجيين استغلال الجمهور بالعبارات الغامضة والمثيرة، وحين ترقى ، فهي تُخضع الفكر السياسي للوضوح والدقة، وتقيه من الوقوع في الغرائزية والضوضاء.