26 Oct
26Oct

بقلم د. محمد القريشي 


وفقًا لتقرير موني توك نيوز  لعام 2024 حول عدد الخريجين الذين أصبحوا مليارديرات، تصدّرت الجامعات الأمريكية القائمة، إذ احتلت  جامعة  هارفارد المنزلة الاولى  (104 مليارديرا )، تلتها ستانفورد بـ(96)، ثم بنسلفانيا بـ(38)، وكولومبيا بـ(32)، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بـ(28). وبرزت جامعات آسيوية جديدة في هذا المجال، منها جامعة بومباي في الهند (22 مليارديرًا) وجامعة شنغهاي في الصين (19 مليارديرًا).


يعود هذا التفوّق الأمريكي إلى منظومة متكاملة تجمع بين التعليم والاقتصاد والثقافة. فالولايات المتحدة تمتلك بيئة اقتصادية منفتحة تشجع على ريادة الأعمال والمخاطرة، وتدفع الخريجين إلى تأسيس شركات ناشئة بدل الاكتفاء بوظائف تقليدية. وتُعد مراكز الابتكار مثل وادي السيليكون حاضنات مثالية تجمع المستثمرين ورأس المال الجريء والمواهب الشابة. كما تؤدي شبكات الخريجين دورًا محوريًا في هذا النجاح، حيث تضم نخبًا من رجال الأعمال والسياسيين والممولين، ما يتيح فرصًا واسعة للتعاون والدعم.


من الناحية الأكاديمية، يقوم التعليم الأمريكي على الإبداع والتفكير النقدي والبحث التطبيقي، مما يجعل الجامعة فضاءً لإنتاج أفكار ومشاريع قابلة للتحوّل إلى مؤسسات كبرى مثل غوغل وفيسبوك ومايكروسوفت، التي بدأت جميعها من قاعات الدراسة. وتستند هذه الجامعات إلى موارد مالية هائلة تمكّنها من جذب أفضل الأساتذة والباحثين وتأسيس مراكز بحثية متقدمة. وفي هذا المجال، تمتلك جامعة هارفارد وحدها (على سبيل المثال) صندوق تبرعات واستثمارات يفوق 56.9 مليار دولار حتى نهاية 2025، وميزانية تشغيلية تقارب 6.8 مليارات دولار.


وإلى جانب هذه البنية الاقتصادية والعلمية، تلعب الثقافة الاجتماعية الأمريكية دورًا حاسمًا، إذ يتجذر في الوعي العام مفهوم “الحلم الأمريكي” القائم على تعظيم  الجهد الفردي والمبادرة، وهو ما يشجع على تحويل الأفكار إلى ثروة. والجدير بالذكر هنا الإشارة إلى اقتباس الصين لهذا النموذج عبر صياغة مفهوم “الحلم الصيني” والانطلاق في مسيرة التحفيز المجتمعي.


لا تعبر كثرة المليارديرات بين خريجي الجامعات الأمريكية  فقط عن جودة التعليم، بل عن تفاعل بنية اقتصادية مرنة مع ثقافة اجتماعية محفّزة على الابتكار والمغامرة، مما يجعل الجامعة الأمريكية مؤسسة لتكوين قادة الاقتصاد العالمي لا مجرد فضاء أكاديمي.


ولا يمكن فهم  هذا التفوق  من دون مقارنته بالنموذج الأوروبي الذي يعكس فلسفة مختلفة جذريًا في معنى التعليم ودوره. فمنذ عصر الحداثة، كانت الجامعة الأوروبية فضاءً لإنتاج الفكر والقيم والمعرفة بعد تراجع سلطة الكنيسة، لتصبح موطنا  للعقلانية والنقاش النقدي، يتشكل فيه  الوعي الجمعي ويتوجه من خلاله  مسار المجتمع الثقافي.


أما في النموذج الأنغلوساكسوني المعاصر، فقد تحوّلت الجامعة ،كما يوضح عالم الاجتماع "ميشيل فريتاج", إلى فاعل اقتصادي داخل ما يسمى بـ اقتصاد المعرفة، حيث لم تعد المعرفة غاية فكرية أو ثقافية، بل سلعة تُستثمر وتُسهم في تحريك السوق. وهكذا انتقل التعليم من بناء المعنى إلى إنتاج القيمة المضافة، ومن تكوين المواطن إلى تكوين رائد الأعمال.


في المقابل، ما تزال أغلب الجامعات الأوروبية، خصوصًا في فرنسا وألمانيا، تعمل وفق نموذج الحداثة الأكاديمية، الذي يرى في التعليم "خدمة عامة" تؤديها الدولة للمجتمع. فهي تركز على تكوين النخب الثقافية والإدارية، وتمنح الأولوية للبحث العلمي النظري والصرامة المنهجية. ولهذا ظلت الجامعات الأوروبية بيئة نشطة في انتاج الفلاسفة   والعلماء الذين صاغوا أسس الفكر الحديث، وأقل نشاطا في انتاج رواد  الأعمال والمستثمرين.


وفي مواجهة هيمنة تصنيف شنغهاي للجامعات، الذي يستند إلى معايير ليبرالية تركز على التمويل وعدد الأبحاث والتأثير الاقتصادي، عملت بعض الدول الأوروبية على تطوير تصنيفات بديلة تعكس رؤيتها الخاصة للتعليم والثقافة.


ومن أبرز هذه المبادرات تصنيف مدرسة المعادن الفرنسية الذي يُقيّم الجامعات بناءً على معايير مختلفة، منها جودة الحياة الجامعية، وانخفاض رسوم التسجيل، ونسبة الخريجين الذين اتجهوا نحو مجالات الإخراج السينمائي أو حازوا جوائز فنية كبرى مثل جائزة الأوسكار أو جائزة تيرنر أو مارسيل دوشامب. كما يأخذ التصنيف في الحسبان حضور الخريجين أو الأساتذة في وسائل الإعلام، ومدى مشاركتهم في الحياة الثقافية العامة.


ويشمل التصنيف أيضًا عدد النظريات أو الاتجاهات الفكرية الجديدة التي تولد في البيئة الجامعية، مثل نظريات ما بعد الحداثة أو السينمائية الماركسية أو التروتسكية الرقمية أو الليبرالية الجماعية.


كما تُقاس جودة الجامعة بعناصر الحياة في واقع الحرم الجامعي، مثل توفر محطة مترو قريبة، ووجود أماكن ثقافية مهمة كالمتاحف والملاعب واستوديوهات السينما، إضافة إلى حيوية الحياة الاجتماعية وكثافة النشاطات السياسية داخل الجامعة.هكذا تبدو الجامعة الأمريكية نموذجًا لما بعد الحداثة، حيث يرتكز  التعليم على  أدائه الاقتصادي ومردوده العملي، في حين ما تزال الجامعة الأوروبية تحمل إرث الحداثة الذي يرى في المعرفة وسيلة لتكوين العقل والضمير الجمعي، وإن كانت تقترب تدريجيًا من النموذج الأمريكي. وتتراوح مخرجات التعليم، تبعًا لذلك، بين الثروة والاختراع من جهة، والفكرة والعقل الناقد من جهة أخرى.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2025 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن