النجف الأشرف، ذلك الاسم الذي يستدعي أُلفة القلوب والفطرة التي نشأنا فيها، تحضر موطناً للذكريات قبل أن تكون مدينةً في الجغرافية.
يبدأ هذا الحضور من مرقد أمير المؤمنين، ذلك المكان الذي يستقر في الوجدان كتجربة روحانية كاملة المعالم.
مَن زار ذلك المكان سيعرف معنى الحروف، أمّا من عاش إيقاعه اليومي فلا بدّ أن يمتلك تلك الفطرة بالمعنى ويكون جزءاً من تكوينه الداخلي.
ولا يكتمل المشهد النجفي في الوعي إلّا عندما تمتدّ العين إلى ما حول المرقد "مدارس دينية" قديمة بنمطها الخاص، أزقّة ضيّقة تحفظ تاريخ المدينة الاجتماعي وطلبة علم ينتشرون بهدوء، كجزء من نسيج المكان وتداخُلٍ بين القداسة والمعرفة، مُكوِّنَيْن بذلك بعداً روحياً واجتماعياً متراكباً للمدينة، منحها شخصية مختلفة عن سائر المدن.
النجف كمدينة تشكّلت، في أساسها، حول مرقد أمير المؤمنين، وما تبع ذلك من إنشاء المدارس الدينية بتعدّدها وتنوّع علمائها، الفكرة هي التي جعلت منها مركزاً رئيساً للشيعة في العالم، تمثّله الحوزة العلمية، والتي تُعدّ اليوم مساراً معرفياً طويلاً تشكّل عبر أجيال، وأسهم في إنتاج عقلٍ فقهيٍ ظلَّ حاضراً في النقاش الديني والفكري عبر قرون.
التأسيس المؤسسي للحوزة العلمية في النجف يعود إلى منتصف القرن الخامس الهجري، مع استقرار الشيخ الطوسي في المدينة بعد تحوّلات سياسية ومذهبية شهدتها بغداد، تلك اللحظة دشّنت مساراً جديداً للمعرفة الدينية، اتّخذ من النجف فضاءً مفتوحاً للدرس والتأليف والاجتهاد. ومنذ ذلك التاريخ، استمر التعليم الديني في المدينة دون انقطاع، ضمن حلقات درس حافظت على اتصالها عبر الزمن، على الرغم من تغيّر الدول والسلطات والظروف العامة.
يمثّل العام القادم نقطةً مهمّةً لهذه المدينة، ذكرى "ألف عام" من التعليم الديني المتواصل في بيئة عرفت انقطاعات قاسية في مختلف مجالات الحياة، تمثّل ظاهرة معرفية لافتة في تاريخ العراق. هذه الاستمرارية ثمرة تراكم منهجي، وقدرة على إدارة الاختلاف وتنظيم العلاقة بين النص والواقع.ومع اقتراب اكتمال الألفيّة الأولى للحوزة العلمية النجفية هجرياً في العام 1448هـ، يبرز هذا الحدث بوصفه لحظة وعي تتجاوز الحساب الزمني.
الحوزة العلمية أسهمت في إنتاج قراءة دينية تقوم على التدرّج وعلى سعة أفق الاجتهاد وعلى استقلال القرار المعرفي.
هذا النموذج تكرّس داخل الدرس اليومي وفي تقاليد البحث وفي علاقة المرجعية بالمجتمع، وهو ما منح النجف سمعتها بوصفها منصّة للاعتدال الديني المتجذّر في التجربة التاريخية.
هذه الخصائص منحت النجف قدرة تأثير هادئة ومتراكمة، بعيدة عن الضجيج وقريبة من عمق المجتمع.
الألفيّة تتقدّم اليوم بوصفها حدثاً دينياً نجفياً عراقياً بامتياز، فالنجف بحوزتها كانت جزءاً من التحوّلات الكبرى التي مرّ بها العراق، وأسهمت في تشكيل وعيه العام في محطات مفصلية وهذا الدور منحها موقعاً أخلاقياً ومعرفياً متوازناً، ما يفرض أن تكون الألفيّة مناسبة وطنية تلتقي فيها الذاكرة الدينية مع الهوية العراقية.
هذه المناسبة تفتح باباً واسعاً لإعادة تقديم النجف إلى الداخل العراقي والعالم الخارجي بوصفها مدينة معنى، ومركز اعتدال يشكّل أحد مثبتات الهوية العراقية، بما تحمله من قيم التوازن واحترام التنوّع وقدرة التاريخ على إنتاج الحاضر.
الألفيّة الأولى للحوزة النجفية لحظة مسؤولية "ثقافية" ولحظة تعريف واستقطاب، وفرصة لتحويل العمق التاريخي إلى قوة ناعمة فاعلة يمكن التعامل معها كمورد وطني مؤثر بما تحمله من استمرارية معرفية وتنظيم اجتماعي متماسك، خصوصاً وأنها توفرت على مؤهلات كافية للإسهام في التعليم والثقافة والسياحة وبناء السلم المجتمعي.