05A2EDD17376135DD5B5E7216D8C98DB
13 Jun
13Jun


منتصر صباح الحسناوي


من نكون عندما يغيب الرقيب؟حين لا يرانا أحد، لا سلطة تُحاسبنا، ولا جمهور ينتظر منّا موقفاً؟ذلك السؤال تجيب عنه القيّم التي نحملها معنا في السرّ، وأحياناً في العلن، في الشدّة والرخاء، في القوة والوَهن.

إنها الهوية القيمية، تلك الجوهرة العميقة التي لا تُرى بالعين، لكنها تُقاس بالسلوك.


تلك الهوية لا تُبنى في لحظة، ولا تُكتسب بالتعلّق بماضٍ أو انتماءٍ خارجي، إنّها تنشأ من تكرار الفعل الصادق، ومن تربيةٍ تغرسُ الموقفَ النزيه بعيداً عن المجاملة، ومن بيئةٍ ترى في النزاهة فضيلةً لا سذاجة.

عندما تتراكم هذه القيّم، يتحوّل الإنسان إلى كائنٍ يعرف ما ينبغي فعله حتى في غياب الضوء، ويعرفُ ما لا ينبغي الاقتراب منه، حتى إن تهافتَ عليه الجميع.


في مجتمعات تمرّ بتحوّلات سريعة، كثيراً ما تختلط الهوّيات، وتختفي الأولويات، ويعلو الصوتُ على السلوك.عندها، تغيب القيّم في زحمة الاستعراض، وتُختزلُ الأخلاق في الشعارات.

يبدو كلُ شيءٍ حاضراً: الدين، والوطن، والعشيرة، واللغة، غير أن الرابط القيمي الذي يضبط حركة هذه العناصر يَضعف أو يتلاشى، فتصبحُ الهوية سطحاً دون عمق، وغطاءً دون جوهر.


الهوّية القيّمية تُمارس في التفاصيل، عندما نردُّ التحيةَ بلطف، ونرفضُ الغشَّ في البيع، ونُراعي شعور شخصٍ مهمَل، أو نتحرّج من مالٍ لم نتعب فيه.كلُّ هذه المواقف، وإن بدت صغيرةً، تُشكّل البنية الأخلاقية للمجتمع، فإن تهاوت، يُصبح القانون عبئاً، ويغدو الضبطُ الخارجي بديلاً عن الضمير.


في العراق، كما في مجتمعات كثيرة مرّت بأحداثٍ جسام، حصل نوعٌ من الاختلال بين القيّم والسلوك العام.وفي وقتٍ أُفرغت فيه الدولة من مؤسساتها، كانت لهذه الهوية القيمية مواقف عامة حفظت المجتمع، مع استثناءاتٍ ذاع صيتها، رافقت شعاراتٍ كثيرة متلّونة ومتّنوعة.

لكنَّ الممارسات اليومية لم تتغيّر كما ينبغي، فلا عجبَ أن ترى من يرفعُ شعارَ الإيمان في العلن، ويخون الأمانة في الخفاء أو في العلن.وهنا تكمنُ الفجوة بين ما نُظهره وما نحن عليه حقاً، أي بين الهوّية المعروضة والهوّية القيمية الكامنة.

العقل الجمعي وسبل التأثير المؤدلجة أصبحت أدواتٍ لمكافأة المتسلّق، ومحاربة الشريف أحياناً أو كثيراً.اختلط الأمرُ وتبدّلت المعايير، فعندما يُقدَّر الماكر أكثر من الأمين، ينشأُ الفرد على أن، الأخلاق عبءٌ، لا ميّزة.

وهذا التبدّل لا يأتي من فراغ، بل من رسائلَ سلبيةٍ متراكمة تُبثّ بأشكالٍ مختلفة، منها مجتمعية، وأخرى مؤسساتية منهجية.

اختلال هذه الرسائل يُغيّر اتجاهات البوصلة دون هدف، ليكون الفرد في واقعٍ من المفارقة: يُربّى على شيء، ويُكافَأ على نقيضه.تعزيزُ الهوية القيمية يكون بإعادة زرع القيم في الواقع، وألّا يقتصر على الخطابات أو التنديد، ولا على التذكير بالماضي.

نحتاج إلى سردية يومية جديدة تُعيد الاعتبار للصدق كقوة، وللأمانة كمهارة، وللتواضع كقيمة إنسانية.

أن يرى الطفل، في البيت والشارع والمدرسة، من يحترم القانون حبّاً لا خوفاً، ومن يُنصف الآخر دون معرفة، ويعتذر دون شعورٍ بالنقص.

الهوية القيمية تبدأ من السؤال: من أكون حين أُترك وحدي أمام اختيار؟هل أسرقُ إذا وجدت الفرصةَ سانحة؟ وهل أكذب للتخلّص من موقفٍ ما؟بهذه التفاصيل نفقد هويتنا القيمية، مهما بدا علينا التدّين أو الانتماء أو الملبس الجميل.

فالقيمة الحقّة تُختبر في لحظة الغفلة، والهوية الأخلاقية تتجلّى حين لا نُنتظر.إنّ المجتمعات التي تعيدُ الاعتبار للضمير، وتجعلُ من القيم معياراً للسلوك العام، تُقيم حصوناً داخل الإنسان.

وكلّما تماسكَ الضميرُ الفردي، خفّت الحاجة إلى القانون، وازدادت فرصُ الثقة، وارتفعت قدرة المجتمع على تجاوز الأزمات بلا تفكّك.لا يمكن لأيّ مشروع تنموي أن ينجح ما لم تُصاحبه بنية قيمية داعمة.فالاقتصاد يحتاج إلى نزاهة، والتعليم يحتاج إلى عدالة، والقضاء يحتاج إلى ضمير.

 ودون هذه العناصر، يبقى كل إنجازٍ عُرضةً للانهيار، مهما بدا صلباً.


الهوية القيمية لا تُفرض، ولا تُلقّن، إنّما تُغرس.تبدأ من فعلٍ صغير، من قدوة حقيقية، من موقفٍ يُعاش بصمت.

هي ما يجعل الإنسان يلتفت لنفسه قبل أن يُشير إلى الآخرين، ويُراجع مواقفه دون أن يُنتظر منه ذلك.


ولتتحوّل القيّم إلى جزءٍ من السياق العام لبناء مجتمعٍ تُصبح فيه القيّم شرطاً للنجاح لا زينةً في الكلام،عندها يرى الموظف أن الأمانة تفتح له باباً لا تُغلقه، ويشعر الطالب أن احترامه للنظام يُقدّمه لا يؤخّره، ويُكافَأ الإنسان على صدقه لا على دهائه، فحينها تبدأ القيم بالعودة دون ضجيج.

وهذه العودة تُعزّز من إعادة تعريف “الجدارة” بما تحمله من ضمير، لتكون القيّم وسيلةً عمليةً للترقّي، ومعياراً للثقة، ومدخلاً للفرص.

يعود الإنسان إلى نفسه، لأنه وجد في الصواب طريقاً مُعترفاً به.والمجتمع الذي يعترف بالقيمة بوصفها شرطاً، هو مجتمع يربّي أبناءه دون أن يرفع صوته، ويزرع الضمير دون أن يُشهر العصا.هي، ببساطة، ما يُبقي الإنسان إنساناً.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2025 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن