أشدُّ ما كان يزعج طفولتنا هو حملُ "صواني" الطعام من البيت إلى المضيف، كأن أطراف الأصابع تتذكر ألمها حتى اليوم.
الأمر قد يُنظر له ببساطة، لكنَّ ثقلها نسبةً لأجسادنا الضئيلة لم يكن متناسقا، تجربةٌ شبه يومية، مرهقة، نرافق بها الكبار، ونقفُ على أعتاب تقليدٍ اجتماعي راسخ. تغيّرت الظروف الآن، فاستعاضت أغلبُ المضايف عن أولادها بالعمالة الأجنبية، وتخلّصت أمهاتنا وأخواتنا من عبء طبخ الولائم بالاعتماد على الأكلات الجاهزة أو "الطبابيخ" ، إلا أنّ الجوهر بقي نفسه: كرم المائدة.هذا الطقس من السلوكيات يتوحد فيه معظم التّنوع العراقي ولايقتصر على منطقةٍ دون أخرى.
والأمر هنا لا يتعلق بالمشايخ أو الوجاهة فليس غريباً أن يعتذر صديقٌ عن إقراضك مبلغاً لحاجةٍ ما ، لكنه يصرّ بمحبةٍ على إنفاق أضعافه إن نزلت عنده ضيفاً.
والمفارقة أنّ فقيراً قد يموت لأنه لم يستطع تأمين كلفةِ عمليةٍ جراحية، بينما تنفقُ عشيرته بعد موته أضعاف المبلغ نفسه لإقامة الولائم في مجالس العزاء. مشاهدُ مألوفة تتكرّر في المدن والأرياف، ويُقال عنها إنها كرمٌ عربي، غير أنّها في العراق لا تقتصر على العرب وحدهم، إنما تشمل كل من عاش على هذه الأرض.
وإذا عدنا بالتاريخ قليلاً نجد أنّ الولائم إرثٌ قديمٌ ما زال يثقل الحاضر.فقبل نحو ثلاثة آلاف عام خلت، افتتح الملك الآشوري آشور-ناصر-بال الثاني قصره في كالح، ودوّن كتبة البلاط على مسلّةٍ حجرية تفاصيل وليمةٍ هائلة امتدت عشرة أيام ، حضرها ما يقارب السبعين ألفاً، وذُبح خلالها آلاف الثيران وعشرات آلاف الخراف، إضافة إلى الطيور والأسماك والنبيذ.
لم يكن ذلك مجرد إحصاء، إنما إعلان عن سلطةٍ أرادت أن تُظهر قدرتها على الإغراق في الوفرة والعطاء. مشهدٌ تاريخيٌ بما فيه من مبالغة، يطلُّ علينا اليوم في صور الولائم العراقية التي لم تنقطع ( باستثناء الخمر ).في الأعراس والمآتم واللقاءات الاجتماعية تتجلى الموائد، فيراها البعض امتداداً لتراثٍ عريق، حيث يُعد الكرمُ سمةً راسخةً ومصدراً للفخر والاعتزاز.
الأمرُ طقسٌ اجتماعي ولا يقتصر على كونه مجرد مأدبة طعام ، هو يجسّد قيّم التضامن والاحترام، ويمنحُ الضيف مكانته الرفيعة، ويُشعر صاحب الدعوة أنّه يرفع شأن عشيرته وأهله.
في القرى والأرياف لا يزال الكرمُ معياراً للسمعة، يُقاس بما يقدّمه الرجل من طعام وما يذبحه من ذبائح. وفي المدن أيضاً، وإن تبدّلت الأطباق، بقي المبدأ واحدا: المائدةُ الفخمة تعبيرٌ عن الكرامة والوجاهة، وعن قدرة العائلة على صون مكانتها.
لكنَّ لهذا البُعد التراثي وجهاً آخر يثير جدلاً متزايداً، فالأموال الطائلة التي تُنفق على الولائم تطرح أسئلةً عن جدواها في ظل أزماتٍ اقتصادية متلاحقة للفرد او حتى للبلد. الذبحُ العشوائي أو المبالغ فيه، للمواشي لا يعني فقط خسارة في الثروة الحيوانية، بقدر ما يمثل من استنزاف للموارد المائية والعلفية نحنُ بأمسّ الحاجة إليها خاصة إذا ما علمنا مثلاً أنَّ كل كيلوغرامٍ من اللحم البقري يستنزفُ 15 ألف لتر ماءٍ كي يكون أمامنا كطعام و 2500 لترٍ من الماء لكيلوغرامٍ واحد من التمن.
أما كميات الطعام المهدورة بعد انتهاء الولائم فهي صورة مؤلمة للتبذير في بلدٍ ما زالت فيه شرائح واسعة تعاني من العوز ، ولعلَّ لقب "المْرَّفْت" شاهدٌ لا نزال نفتخر به (كعائلة) وله حديث أخر.
وهنا لا يقف الأمر عند الجانب الاقتصادي، إذ يبرزُ بعدٌ بيئيٌ خطير. الولائم بتنوعها وما تنتجه من بقايا الطعام إلى أواني البلاستيك المستخدمة حديثاً التي غالباً ما ينتهي بها الحال في مكّبات مكشوفة تزيدُ من التلّوث والروائح والغازات الضارة. ومع كثرة المناسبات، يصبحُ الأثر البيئي مركّباً، ويفتح الباب أمام مشكلاتٍ صحيةٍ وبلديةٍ يصعبُ احتواؤها.إزاء ذلك يقف المجتمع على مفترق طرق: هل يواصل التعامل مع الوليمة كطقسٍ تراثي لا غنى عنه، أم يراجع شكلها وحجمها بما يتناسب مع معطيات العصر؟ البعض يقترح حلولاً وسطية، كتخصيص جزءٍ من نفقات الوليمة للأعمال الخيرية، أو اعتماد أطباق أقل هدراً أو تنظيمها ضمن حدود معقولة تراعي البيئة. آخرون يعتقدون أنّ التغيير صعب لأن الوليمة جزءٌ من النسيج الاجتماعي وما يرتبط بها من عادات، وأي مساسٍ بها يُعد مساساً بكرامة العائلة.
في العمق، تمثل الولائم تعبيراً عن علاقة العراقي بالأرض والضيافة والهوية. والعودة إلى مسلّة آشور-ناصر-بال الثاني تكشف أنّ المبالغة في الولائم ليست وليدة اليوم، إنما تقليد قديم تفرضه اعتبارات القوة والوجاهة. غير أنّ حاضر العراق يفرضُ إعادة التفكير في هذا التقليد، حتى لا يتحوّل إلى عبءٍ في ظلِّ المعطيات الواقعية. التوازن بين الفخر بالكرم والحفاظ على الموارد بات ضرورة.
يمكن للوليمة أن تبقى عنواناً للكرم، شرّط أن تُمارس بوعي وحكمة تراعي حقوق الأجيال المقبلة. عندما تجتمع الضيافة مع التّدبير الرشيد، تتحول الوليمة من استنزافٍ إلى رسالة، ومن إرثٍ يُثقل الحاضر إلى طقسٍ يضيء المستقبل. قد يزعجُ هذا المقترح الكثير ، وقد لا يطبقه أيضاً حتى كاتب هذه السطور ، لكن الخيار المطروح لنا اليوم قد لا يكون لنا مستقبلاً .