د. منتصر صباح الحسناوي
انتهت الانتخابات، وتراجعت معها ضوضاء الأسابيع التي امتلأت بالدعاية والوعود واستعاد الشارع شيئاً من هدوئه بعد موجةٍ طويلة من الصراع السياسي.
بقيت فكرةٌ أعمق تستحق التأمل، فهذه العملية تؤكد امتيازاً نادراً في الشرق الأوسط: امتياز الانتقال السلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع، وسط منطقةٍ لا تزال تُدار في أغلبها بأنماط سلطوية تقلُّ فيها فرصُ التداول الدستوري للسّلطة.
العراق، بكلِّ ما مرّ به من تحديات، حافظ على هذا الامتياز وواصل تطويره. لقد حملت السنوات الأخيرة إشارات إلى تحسّن بيئة الاستقرار والتنمية، على الرغم من الظروف المُناخية التي تضغط على موارده والأزمات الإقليمية المتسارعة والتقلبات الاقتصادية التي تمس العالم بأسره، جاءت الانتخابات هذه المرة ضمن سياقٍ حسّاس، تختبرُ فيه الدولة قدرتها على إدارة المشهد السياسي دون انفعال وعلى تثبيت مسارٍ يتّجه نحو الاعتدال والهدوء.
ترافقت هذه الانتخابات مع مظاهر لافتة، أبرزها تضخم الإنفاق الانتخابي لدى بعض الأطراف واتّساع مساحة "ثقافة الإلغاء" التي غطّت على كثير من البرامج، فبدت المنافسة في بعض فصولها أقرب إلى صراعٍ على إثبات الوجود منها إلى سباقٍ في عرض البرامج.ومع ذلك ظلّت العملية منضبطة وجرت بسلاسة واضحة، الأمر الذي يُحسب لإدارة الدولة، سواء للقوات الأمنية التي حافظت على سلامة المراكز، أو للمؤسسات الحكومية التي أبقت الإجراءات ضمن إيقاعٍ ثابت لم يتأثر بالضغوط.
ظهور النتائج الأولية في موعدها عزّز الثقة العامة وأعاد التأكيد على أنّ مؤسسات الدولة قادرة على تنظيم عمليةٍ بهذا الحجم. لكنَّ هذه الخطوة تمثّل بداية المشهد الفعلية، فالمرحلة الآن تحتاج إلى انتقال من عقلية التنافس إلى روح الوئام الوطني.
الشعارات التي رفعتها القوى السياسية طوال الحملة يُفترض أنها تعهّدات تضع الفائزين أمام مسؤولية أخلاقية وسياسية تجاه جمهورٍ ينتظر الأداء لا الخطاب.
تتشكل المرحلة المقبلة على أساسين مهميّن: الأول هو احترام الاستحقاق الانتخابي وما يفرضه من توزيع مسؤوليات، والثاني هو البراغماتية المرنة التي تحافظ على ما تحقق من الاستقرار مع استدامة التنمية والبُعد الإستراتيجي للمشاريع المهمة، ولا سيما تلك التي تحمل بعداً جيوبولتيكياً حيوياً للعراق.
فالتوازن الداخلي يرتبط بما يجري حول العراق من واقع حسّاس وخطير قد يتأثر بها أيُّ بلدٍ إذا فقد هدوءه السياسي.العراق اليوم أمام فرصة لاستكمال نهجٍ نجح في الموازنة بين التنمية والاستقرار مما يفرضُ على القوى الفائزة أن تتعامل بمرونة تسمح بإدارة الاختلاف ضمن إطار الشراكة لا الصراع.
لقد أثبتت التجربة خلال السنوات الماضية أن التنمية ممكنة عندما تتوفر بيئة سياسية هادئة.
لذلك تكون مهمة الفائزين مضاعفة، لأنهم يدخلون مرحلة تتطلب ضبط الإيقاع وإدارة التحديات بالمنطق لا بالاندفاع، وقدرة على تغليب الصالح العام على المكاسب الخاصة. فالمرحلة لا تتحمل المغامرات التي قد تنعكس بشكل لا يمكن تحمّل أوزاره على البلد، في ظل ظروف استثنائية بكل ما تعنيه الكلمة.
كلُّ تفاهمٍ واعٍ يفتح الطريق أمام استكمال هذه الفسحة من الاستقرار، واستدامة المشاريع التي تنتظر التنفيذ، ومعالجة ملفات كبرى كالتصحر وما يرتبط به من فَقد مئات الآلاف من العوائل لمواردها.
العراق يستحق إدارة واعية تضع مصلحة الناس في مقدمة الأولويات، وتُبقي مسار الدولة بعيداً عن دوائر الاستقطاب التي أثقلت الحياة العامة. إنّ المضي بخطواتٍ ثابتة إلزامٌ في هذه المرحلة وليس خياراً.
انتهت الانتخابات… والجميع ينتظر أن يبدأ العمل الحقيقي بعد رفع الصور مِن قِبل مَن أراد أن يكتسب قليلاً من المكاسب من أُطُرها الحديدية .