د. محمد القريشي
السلطة، في صيغتها الحديثة، لم تعد مجرد ممارسة عمودية بين حاكم ومحكوم، بل أضحت شبكة ممتدة تُمارَس من خلال المؤسسات والخطابات والسلوكيات اليومية وأنماط التفكير, إضافة الى المتغيرات التي احدثتها الثورة الرقمية في العلاقة بين صاحب النفوذ والخاضع للنفوذ. وتشهد الفترة المعاصرة بلورة دور المراقبة الحديثة في فرض سلطة خفية لا تُمارَس نفوذها بالقوة الظاهرة بل عبر إنتاج نوع من الوعي الخاضع، أو ما يمكن تسميته بـ"العين الخفية للسلطة". هذا التحول في آليات الضبط الاجتماعي، من الخارج إلى الداخل، يجعل السلطة أكثر فاعلية وتغلغلًا في الحياة اليومية للأفراد.
وقد تنبأ الفيلسوف ميشيل فوكو الى ذلك, بوقت مبكر, حين ميز بين السلطة التقليدية والسلطة الحديثة، موضحًا أن الأخيرة تتجسد فيما يسميه بـ"السلطة الانضباطية"، التي لا تعتمد القسر المباشر بل المراقبة والتنظيم الذاتي. يعرض فوكو نموذجا تمارس فيه السلطة بشكل منضبط تلقائيا حتى دون وجود مراقِب فعلي. وقد قدم مثالا شهيرا حول ذلك يتجسد بسجن البانوبتيكون, وهو عبارة عن سجن دائري التصميم يُمكن للحارس فيه أن يرى جميع السجناء من برج مركزي، بينما لا يستطيع السجناء معرفة إن كان الحارس يراقبهم في تلك اللحظة. وهي حالة، تجعل السجين في يقظة دائمة، لأنه يحتمل أن يكون تحت المراقبة في كل لحظة، فينضبط سلوكه تلقائيًا, الامر الذي يشير الى طريقة عمل السلطة في المجتمع الحديث بشكل يجعل الافراد منصاعين دون قسر مباشر.
العقل كأداة للسلطة
صمم الفيلسوف البريطاني جيريمي بنثام سجن البانوبتيكون, استنادا الى فكرة فلسفية خلاصتها سعي الانسان بطبيعته الى تجنب الألم وتحقيق اللذة, فوظف هذه الصفة كأداة لضبط سلوك السجناء عبر الخوف من الرقابة والامتثال تجنبًا للعقاب, والرقابة استنادا الى هذا الفيلسوف, ليست جسدية فقط، بل عقلانية ونفسية تتعلق بهندسة السلوك من خلال التأثير على تصوّرات العقل كما جاء في تعبير فوكو "لا حاجة إلى الإكراه، بل يكفي المراقبة فقط لكي يُلزَم السجين بالسلوك الحسن، والمجنون بالهدوء، والعامل بالعمل، والتلميذ بالاجتهاد، والمريض بالتقيد بالتعليمات".
وقد التقط فوكو التقط فكرة السجن وطوعها حسب تطور المجتمع الحديث وحلل واقعه, حين "لا تراقب السلطة فيه لأجساد فقط، بل تُنتج الذوات".
نشر فوكو كتابه "المراقبة والعقاب" في عام ١٩٧٥ و ناقش فيه ولادة السلطة بوقت لم تتوضح فيه بعد ملامح الثورة الرقمية وتطور تقنيات المراقبة، ولكن التغيرات المتسارعة خلال الجزء الاول من القرن الواحد والعشرين، كشفت عن تغول متسارع للسلطة الحديثة وانكسار المواطن أمامها وابتعاد العلاقة بين السلطة والمواطن عن جوهر منظومة الحقوق والحريات.
في عام ٢٠١٧، اجرى التلفزيون الفرنسي تحقيقا استقصائيا صادما تحت عنوان "عندما تعطي الآلة أوامر للعمال في ليدل" سلط الضوء على ظروف العمل داخل مستودعات متاجر ليدل وخضوع العمال إلى تعليمات دقيقة وصارمة, صادرة عن نظام حاسوب يراقبهم ويحدد مهامهم ويقيس أداءهم بشكل يتحولون فيه إلى أنصاف الات. وقد أثار التحقيق جدلا اخلاقيا كبيرا حول معالم السلطة التي يخضع لها المواطن في ظل تطور التقنيات الحديثة.
الهيمنة بالاستلاب الرمزيفي موازاة ذلك، يطور بيير بورديو مفهومًا آخر للهيمنة، يرتكز على البُعد الرمزي للسلطة، وهو ما يسميه بـ"الاستلاب الرمزي مشيرا فيه الى ان "السلطة الرمزية تُمارس عندما تفرض جماعة أو طبقة اجتماعية تصورًا للعالم يبدو للآخرين طبيعيًا، في حين أنه يخدم مصالح المسيطرين وهي سلطة لا تُمارَس عبر القمع بل عبر التواطؤ اللاواعي للمخضعين أنفسهم".
هذا الشكل من الهيمنة يجعل الأفراد يقبلون موقعهم داخل البنية الاجتماعية باعتباره أمرًا طبيعيًا أو مستحقًا، ويعيدون "من دون وعي" إنتاج شروط خضوعهم. وهذا ما يفسر كيف يمكن للسلطة أن تُمارَس من دون عنف مباشر، بل من خلال أدوات ناعمة كالتعليم، واللغة، والإعلام، والرموز الثقافية. ومن هنا تكتسب الهيمنة الرمزية خطورتها، إذ إنها أشد فتكًا من الهيمنة السياسية أو الاقتصادية، لأنها تتخفّى خلف أقنعة الشرعية والتطبيع.
يرى بيير بورديو أن السلطة الرمزية تستمد مشروعيتها من طبيعة النظام الاجتماعي ذاته، فهو لا يُفرَض على أجساد ميتة، بل يستمد قدرًا جوهريًا من قوته من الشرعية التي يُكسبه إياها انخراط الفاعلين الاجتماعيين أنفسهم في تصنيفات تُقصيهم وتستبعدهم. ف"المهيمن عليهم" لا يثورون على الهيمنة التي يُعانونها، لا لأنهم يخشون القمع الجسدي، ولا لأنهم يفتقرون إلى الوسائل، بل لأنهم يشاركون "بلا وعي" في إعادة إنتاج هذه الهيمنة بطريقة تثير الدهشة. وذلك لأن النظام الاجتماعي يحرمهم من الأدوات المعرفية التي تمكّنهم من إدراك آليات القوة والإكراه الكامنة في العلاقات التي يخضعون لها.
إن تقاطع السلطة والمراقبة والاستلاب الرمزي يكشف عن أوجه متعددة للهيمنة في المجتمعات الحديثة، حيث تتضافر الأدوات التكنولوجية، والأنظمة المؤسسية، والرموز الثقافية في إنتاج خضوع داخلي يُقدَّم بوصفه حرية. وهذا ما يجعل من دراسة هذه المفاهيم ضرورة لفهم آليات السيطرة الجديدة التي تجاوزت أطرها التقليدية القائمة على فرض الطاعة المباشرة، واتجهت نحو تشكيل الوعي نفسه، بحيث يصبح الفرد مشاركًا في إخضاع ذاته، باسم الحرية والاختيار.
تتجلى مظاهر الاستلاب الرمزي في المجتمعات المعاصرة (على سبيل الأمثلة) , من خلال سلسلة من الممارسات اليومية التي تبدو عادية، لكنها تنطوي على خضوع خفي لمنظومات رمزية تُنتج الهيمنة وتعيد إنتاجها من دون عنف مادي مباشر. ففي المجال اللغوي، تُمنَح اللغات الأجنبية، وخصوصا لغات المركز الغربي "القوي اقتصاديا وعلميا"، مكانة رمزية تفوق اللغات المحلية، مما يدفع المتكلمين إلى تبنيها على أنها رمز للتميز، في مقابل تهميش اللغات الأصلية، وهو ما يؤدي لتأسيس تراتبية ثقافية واجتماعية "ظالمة". وفي ميدان الجمال، تروّج وسائل الإعلام لنماذج جسدية وعرقية معينة, تقدم بصفتها "المعيار المميز"، الامر الذي يهمش المقاييس المناطقية للجمال ويجعلها متراجعة امام المقاييس الغازية ليتكرس بعد ذلك نوع من "الهيمنة الرمزية الظالمة".
فتجف منابع التنوع في المجتمع وتحل الأحادية ويتغرب الفرد دون ان يبتعد عن مكانه.