18 Dec
18Dec


هطول المطر نعمةٌ، تجد وقعها في نفس كلّ مواطنٍ يتجاوز الأرض إلى المزاج العام، وتترك في الذاكرة إحساساً قديماً بأنّ الخصب عاد وأنّ القلق يمكن أن يؤجَّل.

 يختلط هذا الإحساس أحياناً بانزعاجاتٍ معروفة، من تراجع البنى التحتية إلى تطرفات مناخية وما ينتج عنها من سيول تُربك المدن عند أول اختبار حقيقي، ومع ذلك، يبقى ما عشناه في الأيام الأخيرة واضحاً: سماءٌ أنقى، هواءٌ أخفّ، مدنٌ غُسلت من غبارها، وأنهارٌ استعادت شيئاً من صوتها.


يبقى السؤال، بعيداً عن نشوة اللحظة:هل تغيّر شيء في جوهر أزمة المناخ والمياه؟


في كتابي "نكون أو لا نكون" ، عندما تناولتُ التغيّرات المناخية ولا سيّما في العراق، كان التمييز ضرورياً بين الطقس بوصفه حالةً مؤقتة، والمناخ بوصفه مساراً طويل الأمد. 

ما نراه اليوم ينتمي إلى الأول، فيما جذور المشكلة ما تزال راسخة في الثاني، أنّ صفاء الجو بعد المطر لا يعني اختفاء مصادر التلوث، كما أنّ هطول الأمطار لا يدلّ وحده على تعافٍ بيئي أو مائي.
ما حدث ببساطة هو أنّ الطبيعة قامت بدورها الفيزيائي المعتاد، المطر أسقط العوالق والرطوبة خفّضت تركيز الغبار وحركة الهواء أعادت توزيع مراكز التلوث.

 المشهد تحسّن، أمّا البنية فبقيت كما هي، هذا ما حاولتُ توضيحه سابقاً في مقال "ظلماً يُقال: بغداد الأكثر تلوثاً" فالمدن لا تُقاس بلحظة اختناق ولا بساعات صفاء، وإنّما بمعدلاتها العامة وبقدرتها على إدارة مصادر التلوث في مختلف الأحوال الجوية.


الأمر ذاته ينطبق على المياه.


الاعتقاد السائد بأنّ الأمطار الأخيرة أنهت أزمة المياه أو خفّفتها جذرياً يحتاج إلى مراجعة هادئة بعيداً عن العواطف ونشوة المطر.


خلال الموجة الأخيرة، اختلفت كميات الأمطار في مناطق وسط وجنوب العراق بين 30 و70 ملم، وارتفعت في بعض المناطق الشمالية إلى حدود 80–120 ملم. قد لا تكون هذه الارقام دقيقة لعدم انتظام توزيعها الجغرافي لكنّ هذه الكميات جيدة موسمياً، و تبقى ضمن نطاق الحدث المطري، لا التحوّل المناخي. 

نظرياً، كل 10 ملم من المطر على مساحة كيلومتر مربع تعادل نحو 10 آلاف متر مكعب من المياه، ما يعني أنّ الأمطار الأخيرة أضافت على مستوى البلاد مئات ملايين الأمتار المكعبة من المياه.


غير أنّ المقارنة النظرية السريعة تكشف حجم الفجوة، حاجة العراق السنوية من المياه تتجاوز 50 مليار متر مكعب. 

ما أضافه المطر، في أحسن الأحوال، لا يمثّل سوى نسبة محدودة من هذا الاحتياج، وغالباً أقل من 2–3% عند احتسابه ضمن الخزين الإستراتيجي طويل الأمد.


على مستوى الخزين السطّحي، ساهمت الأمطار في رفع مناسيب بعض الأنهار الفرعية، وتحسين الخزين في السدود الصغيرة والخزانات المحلية، وتخفيف الضغط المؤقت على الإطلاقات المائية المخصّصة للرّي والشرب، هذا أثر إيجابي لكنّه محدود زمنياً.


أما الخزين الجوفي، فقد كان تأثّره أضعف ممّا يُشاع، فالأمطار جاءت في كثير من المناطق على شكل موجات سريعة رافقها جريان سطحي وسيول، ما يعني أن نسبة كبيرة من المياه لم تدخل فعلياً إلى طبقات التغذية الجوفية.


في المقابل، كان الأثر الأهم للأمطار على الزراعة الديمية وغير مباشر في تخفّيض الحاجة إلى الرّي الزراعي لمدة تراوحت بين أسبوعين وأربعة أسابيع، ما أسهم في توفير كميات تُقدَّر بنحو 1–2 مليار متر مكعب من الإطلاقات المائية التي كان يمكن استنزافها. هنا تتضح المفارقة: المطر لم يملأ الخزانات، لكنه أخّر تفريغها.


بهذا المعنى يمكن القول بوضوح:الأمطار الأخيرة حسّنت المشهد المائي وأخّرت الاستنزاف ورفعت المعنويات، لكنّها لم تغيّر معادلة الخزين الإستراتيجي.


وهنا يتقاطع الحديث مباشرة مع ما طرحته في مقالي عن البصمة المائية، فالأزمة لا تكمن فقط في قلة المطر، وإنّما في كيفية استهلاك الماء عندما يتوفر. الزراعة ما تزال تستهلك الحصة الأكبر من المياه، ومع استمرار أساليب الري التقليدية، يتضاعف النزف بصمت. 

من دون حصاد مائي فعّال، ومن دون إعادة النظر في أنماط المحاصيل، ومن دون تقليل الهدر الغذائي والاستهلاك غير الواعي، يتحول كل موسم مطير إلى فرصة مهدورة.


العراق اليوم لا يعيش أزمة طقس مؤقت، وإنّما أزمة تعامل مع المناخ. أزمة تتعلق بالسياسات وبالسلوكيات وبالفهم العام للعلاقة مع الموارد. التغيّر المناخي، كما بيّنتُ في" نكون أو لا نكون" ، لم يكن حدثاً مفاجئاً، وإنما مساراً تراكمياً، وما نشهده من أمطار أو جفاف هو تعبير عن هذا المسار لا نهايته.


الجو أكثر صفاءً الآن والمطر ترك أثره وهذا أمر يُرحّب به. غير أنّ السؤال الذي يبقى معلّقاً بعد انقضاء الغيوم لا يتعلق بالسماء وحدها بل بنا نحن:هل تغيّر وعينا؟هل أعدنا النظر في طريقة إدارتنا للمياه ؟هل انتقلنا من انتظار الطبيعة إلى الشراكة معها؟


بين نشوة المطر وقلق الجفاف، يقف العراق أمام اختبار متجدد. قراءة الإشارات بعمق تفتح باب النجاة، وتأجيل الأسئلة يعيدنا إلى الحلقة ذاتها… إلى موسمٍ آخر.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2025 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن