ظهر أمامي خلال تصفّحي للفيسبوك بوست كتبته قبل اثني عشر عاماً في أثناء دراستي لفلسفة الجغرافية وتحضيري للماجستير. كان سطراً يشير إلى ارتباط الثقافة بمفهوم “بيلدونغ” Bildung في الفلسفة الألمانية، من غير توسّع أو شرح، لم أتذكر المصطلح مباشرة غير أنّ المعنى الذي حمله ظلّ قريباً من وعيي، كمن يلتقي صديقاً قديماً دون أن يذكر اسمه .
عندها أدركت أن ذاكرتي المفاهيمية حفظت جوهر الفكرة ودفعت اسمها إلى الخلف، كأنّ المهم هو المعنى الذي تتركه التجربة أكثر من اللفظ نفسه.
كان مفهوم بيلدونغ مفيداً لي في تلك المرحلة، إذ يشير إلى تكوينٍ يتجاوز الحفظ والتلقّي ويصل إلى مرحلة يكتسب فيها الفرد القدرة على الحكم السليم وفهم العالم ويصبح للثقافة أثرٌ مباشرٌ في السلوك والموقف من الحياة.
يمتلك المصطلح جذراً لغوياً يمنحه وضوحاً أكبر، فكلمة Bild في الألمانية تعني الصورة، وصيغتها الموسّعة Bildung تشير إلى تشكيل الصورة الداخلية للإنسان.
يقوم المفهوم على اعتقاد أنّ الإنسان يتكوّن تدريجياً من خلال التجارب والأفكار والأعمال الإنسانية التي يمرّ بها وأن هذا التكوين يُسهِم في بناء وعيٍ متوازن يساعد على التعامل مع العالم بعقلٍ ورحابة.
هذه الرؤية تختلف عن التعليم التقليدي الذي يملأ الذاكرة ولا يلامس جوهر الشخصية. بيلدونغ يدعو إلى تعليمٍ يشارك فيه الفكر والروح والسلوك، ليتحوّل الإنسان إلى مشروعٍ مستمرٍ للنمو.
ازدهر هذا المفهوم في سياق تاريخي خاص، حيث كانت ألمانيا قبل العام 1871 مجموعة دويلات متفرّقة عاجزة عن تشكيل دولة واحدة، هذا الواقع دفع الفلاسفة إلى التفكير في طريقة أخرى لبناء مجتمع متماسك.
وجدت تلك المرحلة أن الثقافة قادرة على منح المجتمع ما لا تستطيع السياسة توفيره وأن "تكوين الإنسان" قد يشكّل الأساس الأول لبناء دولةٍ قوية.
من هنا ظهرت الفكرة العميقة بأنَّ بناء الإنسان قد يسبق بناء الدولة وأنّ المجتمع الذي يتقوّى بثقافته يمتلك قدرةً أعلى على مواجهة التحولات.
في تلك الفترة كان التعليم الأوروبي يعتمد على التلقين، يدخل الطالب ليحفظ ثم يغادر ليعيد ما حفظه، من غير أسئلة أو تحليل أو مشاركة. رأى فلاسفة التنوير الألمان أنّ هذا الأسلوب يصنع أفراداً ينفّذون ولا يبتكرون ويجعل المجتمع تابعاً لا مشاركا.
جاءت الحاجة إلى تعليم يصنع إنساناً قادراً على التفكير الحر وإدارة ذاته وفهم أثره في العالم، من هنا برز بيلدونغ كطريقٍ جديد للتعلّم، يفتح المجال أمام الوعي ويمنح العقل مساحته الطبيعية في التأمل والبحث.
يرى هذا المفهوم أنّ الإنسان يتكوّن عبر الاحتكاك بأفضل ما وصلت إليه البشرية من فكرٍ وفنٍ وأدبٍ وعلم وأنّ الثقافة ليست ترفاً معرفياً، وإنّما طريقاً يرافق الفرد طوال حياته، فالمهم هو الحساسية تجاه القيم الرفيعة والقدرة على التعامل مع الآخر بوعي، والشعور بأنَّ تكوين الذات يُصنع بقدر ما يُصنع الوطن. الثقافة هنا حركة داخلية تُسهم في بناء المجتمع من خلال بناء أفراده.
يفتحُ بيلدونغ أمام القارئ فرصة جديدة لإعادة التفكير في معنى الثقافة.
يمنحُ الإنسان قدرة على الإصغاء واحترام الاختلاف والاقتراب من الآخرين دون توتر أو تعالٍ، إنسانٌ قادر على الحوار والتعاون وإدارة التنوع في عالم يتغيّر "بسرعة هائلة"، وتزداد فيه الضغوط والمعلومات، يحتاج الفرد إلى ثقافة تمنحه توازناً داخلياً وقدرة على المشاركة الواعية في الشأن العام. وهذا ما يوفره بيلدونغ بوصفه تكويناً يعيد للإنسان دوره الطبيعي في حياة المجتمع.
وعندما نقرأ هذا المفهوم بعمق نكتشف أنّ النهضة تبدأ من صورة الإنسان نفسه "من وعيه" وتكوينه وطريقة نظره إلى الحياة. إنّ المعرفة التي تلامس الداخل تتحوّل إلى قوة أخلاقية وسلامٍ داخلي وقدرة على مواجهة التحديات، هكذا تتكوّن المجتمعات القوية: من أفراد يعرفون ذواتهم ويحترمون غيرهم ويرون الثقافة جزءاً من مسؤوليتهم تجاه وطنه.