11 Dec
11Dec


 بقلم أ.م .د. محمد مرعي الخزاعي

   في زيارته الأخيرة إلى المنطقة، أدلى المبعوث الأميركي باراك بتصريحات وُصفت بالاستثنائية، حين أقرّ بأن الولايات المتحدة أمضت ما يقارب العقدين في الشرق الأوسط دون تحقيق ما كانت تطمح إليه، وأن برامجها ومشاريعها الكبرى لم تُثمر نتائج توازي ما تكبّدته من خسائر بشرية، وسياسية، ومالية. هذه اللغة لم تمرّ عابرة؛ لأنها حملت في طياتها ما يشبه النعي الرسمي لمشروع «الشرق الأوسط الجديد» من جهة، وما يشبه النأي بالنفس عن إرث الإدارات السابقة من جهة أخرى.

التحليل الدقيق لهذه التصريحات يكشف أن واشنطن تتحرك اليوم بين خطين متوازيين: 

الأول هو الاعتراف بأن مرحلة الهندسة الكبرى للمنطقة قد انتهت، والثاني هو تهيئة المسرح لسياسة أميركية متخففة من الطموحات الثقيلة، وأكثر ميلاً لإدارة الملفات بدل الغوص في مشاريع تغيير جذري.

 أولاً: خطاب النعي… إعلان موت مشروع الشرق الأوسط الجديد عندما يتحدث مسؤول أميركي عن «خسائر دون إنجاز»، فهو يعلن بطريقة غير مباشرة أن واشنطن تُسدل الستار عن المشروع الذي روّجت له منذ 2003، وهو مشروع «شرق أوسط جديد» قائم على إعادة بناء الدول وتغيير الأنظمة وتشكيل خارطة سياسية جديدة. لقد أثبتت التجربة أن هذا الطموح وصل إلى نهايته بفعل ما يلي:   

      1.     تغير موازين القوى في غير صالح واشنطن صعود قوى محلية وإقليمية، وتوسع النفوذ الإيراني، وتراجع قدرة الولايات المتحدة على فرض الإيقاع السياسي كما كان الحال في العقد الأول بعد 2003. 

        2.     انهيار فرضية إعادة بناء الدول العراق وسوريا واليمن وغيرها كشفت أن الهندسة الأميركية لم تستطع إنتاج نموذج حكم قابل للحياة، بل خلقت فراغات تمددت فيها قوى غير دولية.

         3.     تحوّل البيئة السياسية من ساحة تشكيل إلى ساحة صمود المحليون لم يعودوا يتلقون التعليمات، بل يفرضون معادلاتهم، ما أعاد الحسابات الأميركية إلى نقطة الصفر. بهذا المعنى، تبدو تصريحات باراك أقرب إلى مرثية سياسية لمشروع وُلد كبيراً وانتهى صغيراً. 

ثانياً: خطاب النأي بالنفس… فصل الحاضر عن أخطاء الماضي لكنّ هذا النعي لم يكن الهدف الوحيد. فواشنطن، في ذات الوقت، تُحاول عبر هذا الخطاب رسم حدود جديدة لدورها، وكأنها تقول: «نحن لسنا امتداداً للسياسات الفاشلة… بل نصوغ اتجاهاً أكثر واقعية». ويتجلى هذا النأي بالنفس عبر ثلاث رسائل رئيسية: 

        1.     تخفيف المسؤولية التاريخية الإدارة الحالية تُحمّل الإدارات السابقة عبء الفشل، لتفتح لنفسها مساحة مناورة جديدة.  

       2.     التبرير الاستباقي لتقليص الانخراط العسكري الاعتراف بالفشل يُسهّل على واشنطن إعادة توزيع قواتها، وربما الانسحاب الجزئي، دون أن يبدو الموقف كمؤشر ضعف. 

        3.     مقاربة «الإدارة بدل الحل» فبعد أن عجزت واشنطن عن صياغة شرق أوسط جديد، لم يعد أمامها سوى إدارة التوازنات:  

       •      منع الانهيار  

       •      منع الخصوم من الحسم      

       •      منع الحلفاء من الفلتان وهي معادلة تضمن لواشنطن «التحكم في درجة حرارة المنطقة» دون التدخل في شكل النظام السياسي. ثالثاً: بين النعي والنأي… ولادة استراتيجية ثالثة   إذا كان النعي إعلاناً لموت مشروع، وكان النأي إعلاناً لتبرئة الحاضر من خطايا الماضي، فإنهما يشكلان معاً مقدمة لإعادة التموضع الأميركي. هذه الاستراتيجية الجديدة تقوم على:   

      •      خفض الطموح ورفع البراغماتية لا شرق أوسط جديداً، بل شرق أوسط مُدار ضمن حدود الأزمات القابلة للاحتواء.   

      •      التركيز على التوازنات الإقليمية لا يهم واشنطن اليوم من يحكم… بل ما يهم هو ألا يحسم أحد ميزان القوى لصالحه.     

     •      توجيه الموارد نحو المنافسة الكبرى الأولويات الحقيقية هي الصين وروسيا والمحيط الهادئ، وليس بغداد ودمشق وصنعاء. بهذا، تصبح تصريحات باراك ليست مجرد تعبير عن انفعال سياسي، بل وثيقة انتقال من مرحلة «الهندسة» إلى مرحلة «التحكم عن بُعد».   

خاتمة لا يمكن فهم تصريحات المبعوث الأميركي إلا عبر ثنائية النعي والنأي: نعي مشروع أميركي ضخم جرى تسويقه لسنوات، ونأي بالنفس عن الفشل تمهيداً لاستراتيجية أكثر تواضعاً وواقعية.  

إنها لحظة اعتراف، لكنها أيضاً لحظة إعادة كتابة قواعد اللعبة الأميركية في المنطقة؛ قواعد قد لا تصنع شرقاً أوسط جديداً، لكنها بالتأكيد ستسعى لضبط أي شرق أوسط آخر يولد خارج إرادة واشنطن

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2025 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن