بقلم: نصير العلي
في خضم التصعيد الجيوسياسي المتجدد في الشرق الأوسط، حيث تتقاطع مصالح الكيان الإسرائيلي، مدعوماً من الولايات المتحدة، مع إيران وحلفائها من المعسكر الشرقي، تبرز الصين كأحد أبرز المستفيدين الاستراتيجيين المحتملين من هذا التوتر الإقليمي – ليس فقط على مستوى منطقة النزاع، بل في ساحات أخرى بعيدة جغرافياً، قريبة حسابياً، مثل جزيرة هونغ كونغ.
الصين، التي تمضي بثبات في إعادة تشكيل مكانتها العالمية كقطب دولي موازن للهيمنة الغربية، تجد اليوم فرصة غير مسبوقة لإعادة صياغة معادلة النفوذ الأميركي في منطقة شرق آسيا، مستغلة انشغال واشنطن وحلفائها الأوروبيين في صراع الشرق الأوسط، ومحاولاتهم الحثيثة لاحتواء إيران وردع تصاعد قوتها العسكرية ، يضاف لها جبهة روسيا واوكرانيا وما تمثله لهم من تهديد .
تقاطع المصالح: من غزة إلى هونغ كونغالصراع المستمر – وإنْ كان بوقف إطلاق نار هش – بين إيران والكيان الإسرائيلي، فتح الباب أمام مرحلة جديدة من التموضع الإقليمي والدولي. وفي هذه المرحلة، تدرك الصين أن استمرار التوتر بين المعسكرين (الغربي والشرقي) قد يمنحها ورقة ضغط نادرة لتصفية واحدة من أكثر القضايا الحساسة في مجالها الحيوي.
مستقبل هونغ كونغ:
فهذه الجزيرة، التي بقيت لفترة طويلة مسرحاً للتجاذب بين النفوذ الغربي والمطالبات السيادية الصينية، لا تزال تحتفظ بوجود اقتصادي أميركي مؤثر، من خلال استثمارات ضخمة وبنوك وشركات تكنولوجية تعتبر هونغ كونغ نقطة ارتكاز لها في آسيا. غير أن بكين باتت تدرك أن الظروف الراهنة تشكّل لحظة حاسمة: بإمكانها المساومة على تخفيف الهيمنة الأميركية على هونغ كونغ مقابل تقديم نفسها كقوة ضبط إقليمي مسؤولة، عبر بوابة إيران.
العرض الذي قد يُقدَّم للصينفي أروقة السياسة الدولية، لا يتم شيء بالمجان. فمع تصاعد الحديث عن سعي طهران للحصول على منظومات دفاع جوي متطورة وطائرات هجومية حديثة – من بينها طرازات قد تكون صينية – تدرك واشنطن وتل أبيب معاً أن تحوّل هذه الصفقة إلى واقع سيُربك ميزان الردع الإسرائيلي، ويضعف هامش المناورة الأميركي في الخليج، وربما يغيّر قواعد الاشتباك بشكل دائم.
تزويد إيران بأنظمة من هذا النوع سيُربك حسابات الردع التقليدي، ويضع المنطقة على أعتاب معادلات غير مسبوقة. ولذلك، فإن العرض الأميركي – غير المُعلن بعد – والذي قد يُقدَّم لبكين، قد يتضمن ضمانات اقتصادية ومصرفية في هونغ كونغ، بل وربما تسويات على مستوى الحكم الذاتي، مقابل تجميد أو تعطيل هذه الصفقة الحساسة.
مكاسب أخرى لبكين: نفط مستقر ونفوذ أوسعلكن الفوائد الصينية المحتملة لا تقف عند حدود التفاوض أو المقايضة على ملف هونغ كونغ، بل تتعداها إلى ما هو أكثر جوهرية في حسابات بكين الجيو-اقتصادية: ضمان استقرار الشرق الأوسط وتأمين استمرارية تدفق النفط عبر مضيق هرمز وتحقيق حلم طريق الحرير التجاري .
الصين، التي تعتمد بشكل كبير على واردات الطاقة من دول الخليج، تعلم جيداً أن أي انفجار عسكري واسع بين إيران والكيان الإسرائيلي من شأنه أن يُهدد الملاحة في المضيق، ويعطّل الإمدادات النفطية الحيوية لاقتصادها.
ومن هنا، فإن سعي بكين لإعادة توازن القوى، أو حتى لعب دور الوسيط الصامت، لا يعكس فقط طموحاً سياسياً أو مصلحة دفاعية، بل يمثل ضرورة استراتيجية لحماية أمنها الطاقي القومي.
ومن خلال العمل – ولو في الظل – على احتواء التصعيد ومنع تحول النزاع إلى حرب شاملة، ستكسب الصين ثقة مختلف الأطراف، وتعزز صورتها كقوة دولية مسؤولة، في مقابل تراجع صورة الولايات المتحدة كضامن للاستقرار.
خلاصة: الصين في قلب المعادلة الجديدةالعالم على أعتاب تحولات كبرى. والشرق الأوسط، مرة أخرى، يتحول إلى ميدان اختبار لصعود قوى جديدة وارتباك قوى قديمة. الصين، بسياساتها القائمة على البراغماتية الهادئة، قد تجد في هذا الصراع فرصة نادرة لإعادة رسم حدود النفوذ في العالم، دون أن تطلق رصاصة واحدة.
المعادلة التي تلوح في الأفق بسيطة لكنها بالغة التعقيد: كلما طالت الأزمة بين إيران والكيان الإسرائيلي، وتعمق الانخراط الأميركي فيها، زادت قدرة الصين على التفاوض من موقع القوة، ليس فقط في طهران، بل في هونغ كونغ، وفي مراكز القرار العالمي كافة.
إنها لحظة الصين – لحظة حسابات دقيقة، ومكاسب هائلة، وتاريخ يُعاد تشكيله من جديد.