05A2EDD17376135DD5B5E7216D8C98DB
08 Jul
08Jul


منتصر صباح الحسناوي


التطرّف ليس اختراعاً حديثاً، ولا ظاهرةً عابرةً. إنّه ميلٌ قديمٌ في النفسِ البشريّة، يندفع حين يختلُّ التوازن، ويتكاثر حين تغيبُ البوصلة.

 فحين نُغالي في شيءٍ، أو ننكفئ عنه كليّاً، نكون قد بدأنا أولى خطواتِ التطرّف، دون أن ندركَ ذلك. وما أكثرَ ما يبدأُ التطرّف بفكرةٍ صغيرةٍ، ثم ينمو في الظلالِ حتى يغدو هو الظلَّ لكثيرٍ.


ولأنّ النفس ليست آلةً جامدةً، فإنّها تحملُ بداخلها نَزعاتٍ قابلةً للانحراف، تحتاج فقط إلى شرارةٍ، إلى خطابٍ يلامسُ الانفعال، أو لحظةِ ضعفٍ تبحثُ عن يقينٍ، فنجد أنّ هناك مَن ينفقُ عمره كلّه في مطاردةِ الضوء. 

وآخر يتطرّفُ في العزلة، قد يُغلقُ النوافذ حتى على بصيصِ الأمل.وبينهما، يقفُ كثيرون على الحافّة، يتمنّون أحدَ المسارين ولا يستطيعون إليه سبيلاً.


ليس كلُّ خروجٍ عن المعتادِ مذموماً، فبعضُ الغرابةِ تصنعُ العبقرية، وبعضُ الاختلافِ يفتحُ أبوابَ الإبداع. غير أنّ التطرّف، حين يتحوّل إلى سلاحٍ، لا يُبقي ولا يذر.

وهذا ما يشهده العالم اليوم، حين أصبحت الأيديولوجياتُ المتطرّفةُ أدواتٍ ميسّرةً للتحكّم بالمجتمعات، تُحرّكها المختبراتُ في أروقةِ المخابرات لتكون سلعاً في سوقِ المصالحِ الكبرى.
في هذا العصر، لا يُبذلُ جهدٌ كبيرٌ لإنتاجِ 

المتطرّفين. تكفي مقاطعُ قصيرةٌ، ومؤثّراتٌ بصريّةٌ، وشحنٌ عاطفيٌّ، وكمٌّ هائلٌ من المعلوماتِ الموجّهة عبر وسائلِ التواصلِ الاجتماعي. 

تُضخُّ الأفكار كالموج، وتُعاد صياغةُ الكراهيةِ في قوالبَ براقةٍ، تُروَّج باسمِ الدين، أو الهويّة، أو العِرق. وحين ترتفعُ الموجة، تتداخلُ المصلحةُ بالقداسة، ويُصبحُ العنفُ خياراً “مبرَّراً”، والدمُ “واجباً شرعيّاً”، والطغيانُ “نصراً إلهيّاً”.


ومن داخلِ هذا المشهدِ المربك، يظهرُ نوعٌ جديدٌ من التطرّف، لا يختصُّ بالبسطاء وحدهم.

 فقد تجدُ رجلاً تملأُ جدرانَ مكتبه الشهادات، وتملأُ أبحاثُه رفوفَ المكتبة، يجلسُ مستسلماً لموعظةِ واعظٍ لم يُكملْ دراسته الابتدائية، يُحدّثه عن الحورِ العين، ومصيرِ الأمّة، والفرقةِ الناجية، وكأنّ مفتاحَ الجنّة بيده وحده.

وفي الزاوية الأخرى، يتصدّرُ المشهدَ مَن يقرأُ كتاباً أو اثنين، ثم يعتلي المنصّات كناقدٍ وواعظٍ ومفكّرٍ، يُوزّع الأحكام، ويتعالى على الناس، متطرّفاً بثقافته كما يتطرّفُ الآخرون بجهلهم.


وسطَ هذه الفوضى، يبقى صوتُ الاعتدالِ خافتاً، ويبدو المثقّفُ الحقيقيُّ كمن يسيرُ ضدّ التيار، لكنّ الدورَ الأهمَّ والأصعب، يبقى بيده.فالمعركةُ مع الفكرِ لا تُحسمُ بالنفيِ والشتائم، بل بتجفيفِ المنابع، وبناءِ العقل، وتقبّلِ الرأي والآخر.


إنّنا نواجهُ تسونامي من التطرّفِ الفكريِّ والنفسيِّ والاجتماعيِّ وما ينتج عنه على الأرضِ من انتهاكاتٍ ومآسٍ، لا تزالُ آثارُها في المدنِ التي غمرها الغلوُّ يوماً.البلدانُ التي سلّمت مفاتيحها للخطاباتِ المتشنّجة دفعت الأثمانَ باهظةً، والتاريخُ، بما فيه من دماءٍ ونكباتٍ، يشهدُ على ذلك.


ورغمَ كلِّ شيء، يظلُّ الاعتدالُ طريقَ النجاة، لكنّه طريقٌ طويلٌ، لا يبدأُ إلا بعد أن تهدأ العاصفة، ويجفَّ الحبرُ الذي كُتبت به شعاراتُ التطرّف، وتُطوى راياتُه الملطّخة. 

حينها فقط، يُعيدُ الناسُ اكتشافَ المعنى، ويعودون إلى جذرِ الفكرة، فيرون كم كانوا بعيدين عنها.
فهل ننتظرُ الموجةَ حتى تكتملَ وتضربنا جميعاً؟ألم نعتبرْ بعد؟

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2025 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن